لكل عصر همومه، ولكل أوان أحزانه، وها هي البشرية تستقبل مرحلة جديدة مختلفة كثيرًا عن سابقاتها، فقد أطلت الأوبئة برأسها على كوكب الأرض ودخلنا في صراع عنيف مع الجراثيم والميكروبات ثم بدأنا معركة ضارية مع الفيروسات، وهي كلها أمور تنذر بمصاعب ومتاعب في المستقبل القريب والبعيد لذلك فإن للتقدم تبعاته وللتكنولوجيا أمراضها، وكلما تقدمت البشرية إلى الأمام زحفت معها معوقات جديدة مع أسباب مختلفة للمعاناة تجعل لكل عصر سمات معينة منها الإيجابي وكذلك منها السلبي، وها هو عصر جديد يطل على الكون وهو يضم فصولًا غامضة وتوقعات ملتبسة تجعل الثقة مفقودة والشكوك متبادلة بين الأغلب الأعم من البشر في ناحية والقلة التي تقود زمام البشرية سياسيًا واقتصاديًا وتكنولوجيا في ناحية أخرى، بينما تبدو ثقافة العصر مختلفة تمامًا فنحن نواجه مرحلة مقبلة نعاني فيها من أمراض التكنولوجيا ومخاوف التطورات الجديدة في البحث العلمي واحتمال تعارضها الكبير مع القيم الإنسانية وطبيعة البشر، لذلك فإنني أطرح هنا بعض الهواجس المتعلقة بما هو قادم وأجملها فيما يلي:
أولًا: لقد كنا نتحدث إلى عهد قريب عن الأوبئة التي اجتاحت البشرية مثل الطاعون والجزام والدرن فضلًا عن الكوليرا والملاريا والإنفلونزا وغيرها وصولًا إلى الإيدز وظننا خطأً أن التقدم العلمي وشيوع اللقاحات ودورية التطعيمات منذ الطفولة قد أصبحت كفيلة بالقضاء على تلك الأوبئة، لذلك كان مجيء وباء الكورونا في نهاية عام 2019 بمثابة مفاجأة مؤلمة لمسار البشر على كوكب الأرض خصوصًا وأن الأجيال الحالية لم تشهد تلك الفترات المظلمة التي حسبنا أننا قد ودعناها مع العصور الوسطى أو على الأقل لم يعد لها وجود بعد تقدم الطب الوقائي واكتشاف البنسلين ثم المضادات الحيوية، ولم يكن في حسابنا أيضًا أن حربًا ضارية سوف تشنها الفيروسات على الإنسان بالصورة التي شهدناها مؤخرًا والتي جعلت أغنى دول العالم وأقواها ترتعد تحت وطأة الهجوم الكاسح لتلك الفيروسات التي عصفت بالحياة والأحياء وغيرت شكل المجتمعات وتدخلت في إعادة توزيع خريطة الحياة اليومية في كل مكان.
ثانيًا: إن الذاكرة لا زالت تحتفظ بما جرى إبان الثورة الصناعية في أوروبا والتحولات التي صاحبتها والآثار التي تركتها والأمراض الجديدة التي جاءت بها حتى أن الروائي الكبير (تشارلز ديكنز) قد جعلها موضوعًا لبعض رواياته الشهيرة، فالمعاناة التي شعرت بها الطبقة العاملة والظلم الاجتماعي الذي كان سائدًا قد أعطى الأدب والفن مادة للتغيير والتعبير، وها هي الكورونا قد فعلت بنا شيئًا مشابهًا حتى وجدنا عناوين جديدة لأعمال أدبية مثل (الحب في زمن الكورونا) أو (شهداء الوباء)، وغير ذلك من الدلالات الموحية من خلال مظاهر الأدب والفن بل والثقافة عمومًا.
ثالثًا: لقد لاحظنا أنه في غمار ما أطلق عليه الحرب البيولوجية أن هناك من يستثمر ظروف تلك الحرب في تزكية الصراعات السياسية والمنافسات الاقتصادية على نحو غير مسبوق، فلقد برزت الشكوك المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وجرى التراشق بين الإدارة في واشنطن والحكومة في بكين ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن دول أوروبا الغربية قد شعرت هي الأخرى بالصدمة مما جرى للولايات المتحدة الأمريكية وبدأت تتردد أقوال حول تخليق ذلك الفيروس اللعين، وقام مناصرو نظرية المؤامرة بسكب الزيت على النار فاشتعلت الأمور واختلطت الحقائق وأصبحنا أمام مشهد معقد قد يأخذ سنين عددًا حتى ينجلي الموقف وتظهر الحقائق كاملة خصوصًا وأن الذاكرة لا تنسى وأن التاريخ لا يغفر.
رابعًا: لعل المؤلم في الأمر كله هو ما بدأ يتردد في كتابات جادة عن حرب طويلة مع الفيروسات القادمة وأن المخاطر المتوقعة أكبر بكثير مما شهدناه حتى الآن مع مخاوف متزايدة من التطعيمات الجديدة واللقاحات المطروحة حتى أن الكثيرين قد قرروا الإحجام عن التعامل معها نظرًا لما شاع عن نتائج سلبية وآثار جانبية لتلك اللقاحات، وأصبحنا أمام موقف عبثي يترك البشر والوباء في ساحة واسعة دون أن تكون هناك مظلة حماية تقبلها كل الأطراف.
خامسًا: لقد ترددت أحاديث – قد تكون مختلقة – من أن هناك محاولة خفية من قوى تتحكم في الأبحاث العلمية ودراسات علم الإنسان تنطلق من مخاطر الزيادة السكانية الهائلة لمن يعيشون على كوكبنا وقد تجاوز عددهم السبع مليارات ونصف المليار وربما أكثر من ذلك، وبدأت تطل علينا من جديد النظريات المتشائمة في علم السكان وتعود بنا إلى عصر مالتس ودوركايم واعتبر أصحاب هذا الرأي أن عودة الأوبئة الفتاكة هي جزء من مخطط علوي لتقليص عدد البشر ووضع حد للزيادة السكانية ويضيف أصحاب هذا الرأي أن محاولة إنقاص العدد سوف تستهدف قوميات بعينها وأجناس بذاتها لإتاحة الفرصة في حياة أفضل لمن يعيشون من باقي البشر، وذلك تفكير مفزع وتصور خطير ولكننا لاحظنا وجود آثار واضحة لذلك التأويل الخبيث في كثير من الكتابات المتداولة خصوصًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
إننا نشعر بأن هذا الجيل يقف أمام مسئولية تاريخية عليه أن يعي آثارها على المستقبل وأن يدرك أننا أمام مرحلة مفصلية في تطور البشرية، وهذه المرحلة تحتاج من الجميع إحساسًا عميقًا بالمسئولية وتنقية للأخبار وتمحيصًا للمعلومات مع مقاومة شفافة للشائعات، فأنا ممن يظنون أن مستقبل البشرية مشترك بين الجميع ولن يفلت من معاناته أحد، كما لن يستأثر بميزاته أحد أيضًا، فسكان الأرض يحتشدون في قارب واحد يمخر عباب المحيطات الغامضة لكي يرسو على شاطئ الأمان.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 15 ديسمبر 2020.