الفارق بين الحلم والوهم، أن الأول حق مشروع قابل للتطبيق، أما الثاني فهو درب من الهلوسة لا يعتمد على احتمالات واقعية ولكن يبدو فقط هاجسًا يرتاد أصحابه حينًا فحينًا، ولابد أن أعترف أنني أشكر الله دائمًا على حق الخيال الذي منحه للبشر، فأنت تستطيع أن تسبح بخيالك في كل اتجاه وقد تجلس إلى عظيم باطش وأنت في أعماقك وبؤرة خيالك لا تحترمه ولا تقبل وجوده، ولذلك فإن حق الخيال متعة منحها الله للبشر تسمح لصاحبها بأن يتصور ما يريد في أي زمان ومكان ومهما كانت مستويات علمه أو إمكانات جيبه إلا أنه في كل الأحوال سيد الموقف، فقد يستطيع تصفية حساباته مع خصمه خيالًا وقد يستطيع التخطيط لمستقبله البعيد خيالًا أيضًا ولا يستطيع أحد أن يصادر على حق الخيال لدى صاحبه، ولكن يستطيع الكثيرون مواجهة الأوهام باعتبارها خروجًا على الناموس ونوعًا من أنواع الهواجس المريضة والأفكار اللامعقولة، ولذلك فإنني أظن أن الخيال السوي الذي يتأسس على ذاكرة رحبة ورؤية بعيدة واستشراف جاد للمستقبل يمكن أن يكون إضافة لامعة لصاحبه يضعه في مصاف من يحسنون التفكير ويملكون الإرادة ويقدرون على التغيير، فالمسافة بين الحلم والوهم مسافة واسعة تتفاوت بينها درجات الوعي لدى الإنسان مع اختلافه من نوعية إلى أخرى، لذلك فإننا نشجع على الحلم وننبذ الوهم لأننا لا نؤمن إلا بما يمكن أن يتحقق، ونثمن كثيرًا على منحة الخيال التي أعطاها الله للبشر وسوف نكتشف أن العظماء في التاريخ والخالدون في صفوفهم إنما حققوا ذلك كله عن طريق توظيف أحلامهم وتحويلها إلى حقيقة والانتقال بها من خيال مطلق إلى واقع ملموس، وعندما قال مارتن لوثر كينج: لدي حلم، وكرر ذات العبارة أوباما في حملته الانتخابية الرئاسية فإننا اكتشفنا أن الأحلام قابلة للتحقيق وأن الخيال يمكن توظيفه إذا وقف وراءه عقل رشيد وإرادة صلبة، وأضرب لذلك عددًا من الأمثلة:
أولًا: إن الحديث عن الوحدة العربية التي ظللنا نلوكه عقودًا وعقودًا أصبحت أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة، وقد يكون التعبير صادمًا ولكن لا يصنع الحقيقة إلا مجموعة من الصدمات، فالحديث اليوم عن مشروع للوحدة العربية في ظل غياب التنسيق السياسي والتكامل الاقتصادي والإرادة القومية يبدو كمن يبحث عن رابطة عنق وهو عريان تمامًا ليس لديه ما يرتديه لكي يستكمله برابطة العنق التي يتحدث عنها بغير وعي.
ثانيًا: إن الخيال ليس ترفًا ولا نوعًا من المظهرية ولكنه آلية بشرية لتحقيق الأحلام واستبعاد الأوهام، ولقد اكتشفنا دائمًا أن عظماء التاريخ وقادة الرأي قد امتلكوا سعة في الخيال وبعدًا في الرؤية وشمولًا في النظرة مدعومة كلها بإرادة حديدية تتحدى الصعاب وتجتاز العوائق وتمضي نحو غايات واضحة وأهداف محددة.
ثالثًا: إن ترتيب أولويات الذهن وجدولة آليات التفكير هي التي تصنع النجاح وتسحق الفشل بل وتحيله إلى إنجاز يصب في صالح من أخفق والنماذج كثيرة والصور متعددة، ولابد أن كلًا منا يملك في ذاكرته أمثلة لما نقول ونماذج لما نشير إليه.
رابعًا: إن فقه الأولويات هو الذي يفرق بين شخص وآخر، فقدرة العقل على التمييز بين المهم والأهم والأكثر أهمية هي التي تسمح لصاحبها بأن يتخذ القرار الصحيح وفقًا لمعطيات سليمة تقوم على إدراك كامل لمعنى الأسبقية الفعلية وفقًا لخيال صاحب القرار، ولقد أدركنا دائمًا أن غياب هذه الصفة لدى بعض الناس يؤدي إلى كثير من الخلل في التفكير والاضطراب في التنفيذ ويضع صاحبه أمام إشكاليات معقدة ومواقف حادة لا يمكن علاجها إلا بمعاناة وقلق وصعوبات على الطريق.
خامسًا: لقد قال أمير الشعراء: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تأخذ الدنيا غلابًا، وهذا البيت الشعري يجسد إلى حد كبير أهمية الإقدام والشجاعة إذا اكتملت الرؤية وتحول الخيال إلى مراحل قابلة للتنفيذ دون السقوط في مبالغات غير صحيحة أو توقعات غير دقيقة، فالحسابات العقلية لازمة لحماية الخيال من التعثر على طريق التطبيق الواقعي، فالحياة حافلة بالمصاعب والمتاعب لذلك فإن التفكير العلمي السوي هو الذي يساند الخيال السليم وبهما يحلق المرء إلى آفاق عالية تطلع إليها وتعلق بها.
سادسًا: إن الخيال ليس له حدود، ومن حق المرء أن يتخيل دون ضوابط ولكنه يرتب أولويات خياله وفقًا للواقع على الأرض وما يحيط به من حسابات وما يمكن أن يتعرض له من صعوبات، فميزة الخيال أنه حق مطلق أما الوهم فهو تعبير عن لحظات بؤس وضعف إرادة وسوء فهم.
سابعًا: نعود مرة ثانية إلى قضية الوعي ومساحة الثقافة اللتين تدعمان قاطرة الخيال وتدفعان بها إلى الأمام إذ أنه ليس من شك في أن عمق الوعي واتساع دائرة الثقافة في المحيط الذي يعيش فيه صاحبه والتخصص الذي يعمل من خلاله هي عامل هام في إنجاح مسيرته وإعطائه دفعة للانتصار على العوائق والأخطاء التي تعترض مسيرته.
هذه ملاحظات سبع أردنا بها توصيف مسألة الخيال البشري وقدرته على استشراف المستقبل واستلهام ما هو قادم لأن رحابة الخيال وسعة الأفق هما تعبيران عن العقل الرشيد والفكر السليم والنفس السوية.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 22 ديسمبر 2020.