تعتبر جامعة الدول العربية – بما لها وما عليها – هي المؤسسة العربية الأولى للعمل العربي المشترك، ونحن نعترف بأن محصلة مواقف الدول الأعضاء منها ليست كما يجب أن تكون، فالإرادة السياسية لدعم الجامعة ليست متوافرة والأمين العام يؤذن أحيانًا في (مالطة)، ويتحرك هنا وهناك ويستقبل الشخصيات الدولية ويلقى التصريحات التي تعكس الروح القومية، ولكن الأمر مختلف للغاية فلم تعد جامعة الدول العربية هي ذلك الوعاء العروبي الذي يحتوي إرادات الدول فيكون محصلة أمينة لمواقفها المشتركة، ويكفي أن نذكر بكل أسف أن بعض الدول العربية لا تسدد التزاماتها المالية للجامعة وتضعها في موقف صعب كل فترة وربما مع بداية كل شهر! وإذا كانت الجامعة هي المظلة لمؤسسات العمل العربي الأخرى اقتصادية وثقافية وفئوية إلا أننا نشعر أحيانًا بأننا نستسهل انتقاد الجامعة دون محاولة إصلاحها ودعمها ماديًا وسياسيًا وإعلاميًا، فنحن نصب جام الغضب على الجامعة ويسميها البعض بالثلاجة الكبيرة الرابضة على ضفاف نيل القاهرة، وهذا ظلم بين واجتراء على الحقيقة ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن معظم الدول العربية قد آثرت المضي في جلد الذات وتحميل الجامعة كل خطايا العمل العربي الغائب، والجامعة لها ذراع اقتصادي في القاهرة، وذراع ثقافي في تونس، وذراع ثالث للمرأة العربية في القاهرة أيضًا، فضلًا عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والإدارات المستقلة لخدمة التنمية الاجتماعية في أنحاء الوطن العربي، ولها أذرع أخرى في مكاتبها الإعلامية ببعض العواصم الأجنبية فضلًا عن بقايا جهاز المقاطعة الذي كان يتمركز في دمشق ولها معهد كبير وعريق للدراسات العربية في القاهرة تولت إدارته أسماء كبيرة بدءًا من الدكتور طه حسين وصولًا إلى أستاذ العلوم السياسية النابه أحمد يوسف فضلًا عن معهد للمخطوطات رشحت مكتبة الإسكندرية حاليًا واحدًا من أفضل خبرائها ليكون مديرًا جديدًا له، وفي كل الأحوال فإننا يجب أن نقرر أن الجامعة ـــ برغم كل المآخذ عليها ــ قد سدت فراغًا كبيرًا في الفضاء العربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، ويكفى أن عبد الناصر بشعبيته الكاسحة وزعامته القوية قد تعاون مع الجامعة ولم يقف ضدها بل اعترف بها مظلة دائمة للقمم العربية في عهده ومن بعده، وقد توافد على أمانتها العامة شخصيات كبيرة بدءًا من عبد الرحمن عزام الذي كان اختيارًا مصريًا سعوديًا بالدرجة الأولى ثم عبد الخالق حسونة الذي قضى أكبر فترة فيها ثم محمود رياض وزير خارجية مصر الأسبق ثم تولاها التونسي الراحل الشاذلي القليبي عندما انتقلت مؤقتًا إلى تونس بسبب سياسات كامب ديفيد ثم تولاها الدبلوماسي المصري المخضرم عصمت عبد المجيد الذي تلاه الدبلوماسي المتميز الذي تثير مواقفه الجدل وتوقظ المشاعر وأعني به السيد عمرو موسى ابن الدبلوماسية المصرية ثم تلاه نبيل العربي الفقيه القانوني والقاضي الأسبق بمحكمة العدل الدولية حتى جاءت إلى واحد من أصدقائي المقربين وهو أحمد أبو الغيط الذي يتميز بأنه خلاصة لخبرة الخارجية المصرية في الداخل والخارج فضلًا عن حصافة غريزية تجعله يعرف ماذا يقول؟ ويعرف أيضًا ما لا يجب أن يقال، والذين عابوا على الجامعة أن امناءها العامين كانوا مصريين لأنهم من دولة المقر يجب أن يدركوا أنهم قد فعلوا نفس الشئ عندما اختاروا تونسيًا وهي في مقرها هناك، وأنا أدرك أن مجلس الوحدة الاقتصادية ومنظمة العمل العربي فضلًا عن اليونسكو العربية في تونس هي روافد فاعلة في تنشيط العمل العربي ودفعه إلى الأمام كل في مجاله ولكن الأمر الذي لا خلاف عليه هو أن المخرجات من العمل العربي المشترك لازالت ـــ منذ إنشاء الجامعة ــ أقل بكثير من أحلام الذين وقعوا على بروتوكول الإسكندرية في قصر (انطونيادس) وهو لا يزال في حوزة مكتبة الإسكندرية التي أتشرف بإدارتها، ولقد حاول الكثيرون من مندوبي الدول المختلفة مشاركة الأمين العام عبر العقود الأخيرة في إصلاح الجامعة سياسة وأسلوبًا وإعلامًا وميزانية ولكن معظم هذه الجهود لم تكلل بالنجاح وتبقى ملاحظتان يجب أخذهما في الاعتبار:
الأولى: إن الساحة العربية قد تغيرت، ولم يعد الصراع العربي الإسرائيلي بشكله القديم بل طرأت عليه تغيرات هيكلية خصوصًا هذا العام جعلت كثيرًا من أساليب الجامعة في حاجة إلى مراجعة وفقًا للأوضاع الجديدة، وأتذكر في ستينيات القرن الماضي عندما سألت أستاذي الراحل د. بطرس بطرس غالي عن جدوى الجامعة العربية فقال: إنها على الأقل تمنع أن يغرد طرف عربي وحده خارج السرب ويفتح جسورًا للاتصال مع إسرائيل، وبدا الكلام وقتها مدهشًا، حتى أنني سألته: وما هي نقطة الضعف التي تتوقع منها هذا الشرود؟ وكانت إجابته بلا تردد: ربما لبنان، وها نحن نرى دولة (شجرة الأرز) وهي قابضة على مواقفها القومية حتى الآن!
ثانيًا: إن تركيز الجامعة على القضايا الاقتصادية والثقافية قد يكون بديلًا فاعلًا لتنشيط دورها بدلًا من انتظار التغيرات السياسية المفاجئة أو التحولات غير المتوقعة ذلك أن الدنيا قد تغيرت كما أن العالم قد تحول ويبقى التكامل الاقتصادي هو العمود الفقري لمفهوم الاندماج القومي كما أن العامل الثقافي هو المتغير المستقل في العلاقات الدولية المعاصرة، فالعرب قد يختلفون سياسيًا واقتصاديًا ولكنهم غالبًا ما يتفقون ثقافيًا، فالتعليم والآداب والفنون هي ركائز حقيقية لتفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك التي نتحدث عنها.
هذه نظرة عاجلة على قضية مؤثرة في مستقبل العرب على اختلاف توجهاتهم، وتنوع أفكارهم، وتباين انتماءاتهم.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 29 ديسمبر 2020.