جاء في أهرام 30 ديسمبر 2020 وفي مقال الدكتور محمد كمال الأستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ومدير معهد الدراسات العربية تحت عنوان (سنوات عمرو موسى) فقرة توقفت عندها ودفعتني إلى الكتابة مرة سادسة في موضوع أعتبر أنني أتبناه من بدايته حتى الآن وأعني به الدعوة إلى قمة ثقافية عربية، فلقد قال الدكتور كمال في مقاله: (اهتمام عمرو موسى بقضايا الفكر والثقافة، ظهر أيضًا في دعوة لقمة ثقافية عربية ولكن ظروفًا كثيرة حالت دون انعقادها حتى الآن.)، ولا بأس من القول باهتمام السيد عمرو موسى بقضايا الفكر والثقافة فهو كذلك ولكن الدعوة لعقد قمة ثقافية عربية لها قصة أخرى في وقت كان فيه هو أمين عام جامعة الدول العربية، ففي أحد أيام ربيع عام 2009 وفي العاصمة اللبنانية انعقدت ورشة عمل كبيرة حول التعليم والثقافة برعاية مؤسسة الفكر العربي تحت رئاسة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل وبحضور وزير الثقافة اللبناني حينذاك تمام سلام وفي الجلسة الختامية لتلك الندوة الحاشدة كان الحوار مفتوحًا وثريًا بحيث بدت الجلسة أقرب إلى مشروع العصف الذهني منها إلى جلسات المؤتمر العادية وذلك بفضل حيوية الأمين العام للمؤسسة حينذاك الدكتور سليمان عبد المنعم الأستاذ بحقوق الإسكندرية وهو شاهد حي على ما أقول حيث تقدمت يومها باقتراح يدعو إلى عقد قمة ثقافية عربية على غرار القمة الاقتصادية العربية وأوضحت أسبابي أمام الحضور فبدا الحماس قويًا للفكرة داعمًا لها ومؤيدًا لتنفيذها وكانت هذه أول مرة يجري فيها طرح هذا الأمر، ومن قبيل الأمانة أن الصديق الأستاذ محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب العرب حينذاك دعا في نفس الفترة تقريبًا أو بعدها بأيام قليلة لمبادرة مثيلة في أحد اجتماعات الاتحاد بدولة ليبيا مركزًا على العامل الثقافي وأهميته في المستقبل العربي، وأنا استعيد حاليًا هذا الموضوع للتدقيق في الحقائق وتأكيد المعاني الواردة في مقال الأستاذ الدكتور محمد كمال، واستدرك قائلًا إن أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق السيد عمرو موسى قد تحمس للفكرة وقتها ودعا إلى عقد لقاء موسع حول مائدة مستديرة بمقر الجامعة حضره لفيف من المعنيين بشئون الثقافة والتعليم واللغة من مختلف الدول العربية، ودعيت لشرح وجهة نظري والحديث عن الدعوة لقمة ثقافية عربية، وأتذكر أن المفكر المصري الراحل سيد ياسين قد أثنى على الاقتراح وتبعه كثيرون من حاضري الاجتماع وانعقد رأي الجميع على رفع توصية إلى القمة العربية من خلال أمين عام الجامعة تدعو إلى تلك القمة على اعتبار أن كثيرًا من مشكلات المنطقة العربية ترجع إلى أسباب ثقافية وتمتد إلى جذور حضارية، ثم جاء الربيع العربي ليحيل المنطقة إلى خريف من نوع خاص فتقطعت الأوصال وانكفأت النظم على شئونها الداخلية وانشغلت الشعوب بمقاومة الفساد والاستبداد وكان علينا أن نتوقف أمام ما جرى وأن تتوارى (المبادرة الثقافية العربية) وراء أستار العنف وضجيج الشوارع وصخب الاحتجاجات والاعتصامات وفوضى الإضرابات والمواجهات، ولقد ذكرني المقال - موضوع التعليق - بأنه حان الوقت لنعيد الكرة ونطرح الموضوع مرة أخرى من جديد لأن العامل الثقافي قد أصبح هو المتغير المستقل في العلاقات الدولية المعاصرة إذ أن اختلاف الثقافات وتعدد الحضارات وتباين الهويات يصب كله في اتجاه مؤدي إلى تعظيم دور العامل الثقافي وتأثيره سلبًا أو إيجابًا على العلاقات القائمة بين الأمم والشعوب خصوصًا وأن ثورة المعلومات والتقدم الكاسح في تكنولوجيا الاتصالات قد أديا إلى سهولة التعارف بين المجتمعات البشرية المختلفة وتفهم الأطراف لعادات سواها وتقاليد غيرها، فالقرية الكونية لم تعد تعبيرًا نظريًا ولكنها توصيف للواقع يدفع بالعامل الثقافي إلى مقدمة المتغيرات في العلاقات الدولية المعاصرة خصوصًا وأن معظم الصراعات المحتدمة على امتداد خريطة المعمورة تبدو ذات طابع ثقافي بالدرجة الأولى، فالعولمة تعني سقوط الحواجز القومية والحدود الثقافية لتمتزج المجتمعات المدنية في إطار مشترك يتحدث عن عالم واحد، وهو ما يعني تداخل الثقافات وتواصل الحضارات على نحو غير مسبوق في التاريخ البشري كله، كذلك فإن نظرية صامويل هنتنجتون حول صراع الحضارات تكشف هي الأخرى أن العامل الثقافي يقف وراءها بوضوح فهي تحمل إرهاصًا مبكرًا للصدام المحتمل بين الثقافات الكبرى والحضارات الضخمة في تاريخ البشرية، كما أن المواجهة بين الإسلام والغرب والتي تبدو واضحة في السنوات الأخيرة حتى أوصلتنا إلى ميلاد ظاهرة الإسلاموفوبيا هي أيضًا تأكيد جديد لأهمية الثقافة في العلاقات القائمة بين المجتمعات البشرية، يبقى عامل أخير لابد أن أشير إليه وهو أن الانتفاضات الوطنية والثورات العربية قد غيرت معادلة الحياة في المنطقة وجعلتنا أمام رد فعل اقتصادي واجتماعي وسياسي في مواجهة الاستبداد والفساد وافتقاد العدالة الاجتماعية التي هي في رأيي المصدر الأول للانتفاضات الشعبية في الدول المختلفة خصوصًا وأن ذلك كله يتم في إطار ثقافي شامل يتصل بأنماط الحياة وأساليب المعيشة والسلوك البشري في كل مجتمع على حده.
لقد دفعني التعليق على مقال الأهرام الذي أشرت إليه لكي أجدد الدعوة عالية لكل أصحاب القرار وذوي الشأن في جامعة الدول العربية وفي مقدمتهم الأمين العام أحمد أبو الغيط الذي أعلم أنه يتبنى مثل هذا النوع من التفكير ويتحمس لمبادرات جديدة خصوصًا وأن العروبة تمر بفترة أشبه بفترات الريبة لدى القانونيين في توصيف الحديث عند تفنيد الأحكام! إن القمة الثقافية العربية ــــ التي دعت إليها بعد مبادراتنا إحدى القمم العربية في قراراتها ــــ قد أصبحت الآن ضرورة كبرى في عالم يموج بالتيارات المختلفة والصراعات المحتدمة وتسعى فيه الأمم إلى تأكيد ثقافتها وترسيخ هويتها.
نُشر المقال في جريدة الأهرام يتاريخ 5 يناير 2021.