اختلف خبراء التنمية حول القطاع الأكثر تأثيرًا فى تحقيق النمو السريع لأى دولة، فتحدث البعض عن الزراعة، والبعض الآخر عن الصناعة، وفريق ثالث عن السياحة، بينما ارتكن فريق رابع إلى مفهوم الدولة الريعية معتبرًا أن الصناعات الاستخراجية هى طريق سهل وسريع للوفاء بمقتضيات الحياة وتمويل التنمية بأسرع الطرق، وواقع الأمر أن كل هذا التحليل لا ينطوى على الحقيقة، فالقضية أساسًا تعتمد على الميزة النسبية التى تتمتع بها الدولة فى كل قطاع، فهناك دولة ميزتها النسبية فى الزراعة، وأخرى فى السياحة، وثالثة لا يبدو أمامها باب تطرقه أفضل من التصنيع فهو قطب النمو طويل المدى، وإذا كانت المهن الأساسية فى التاريخ إذا تجاوزنا الأولى احترامًا لهذه السطور فإن الصيد والرعى والزراعة تأتى بالترتيب فى المرتبة التالية، فالإنسان الأول الذى كان يبحث عن طعامه اكتشف مبكرًا أن صيد الحيوانات ثم الأسماك هو طريقه الوحيد لسد رمقه، ثم تعلم كيف يرعى قطيعًا من الحيوانات المستأنسة كالأغنام والأبقار ليجد طعامه حتى قبل أن يتعلم الطبخ ويتعامل مع النار بعد اكتشافها.
ونظرًا لأن حياته كانت فى الكهوف الباردة المظلمة فإنه كان يختزن طعامه حتى لا يخرج إلى الصيد فترات طويلة فى ظل المناخ المضطرب والطقس البارد والأجواء المتقلبة، ولقد زرع الأجنبى فى أذهان المصريين أن الميزة النسبية لديهم تكمن فى الزراعة، وهذا صحيح، إلى أن اكتشفت الدولة المصرية أن الزراعة لا تنهض وحدها بإيجاد هيكل متماسك لاقتصاد وطنى، لأن جودة المحاصيل كمًا وكيفًا تختلف من عام إلى آخر، كما أن الزراعة تستتبع بالضرورة صناعات تكميلية مثل الصناعات الغذائية والغزل والنسيج وغير ذلك من الصناعات البدائية التى لا تحتاج إلى تكنولوجيا معقدة أو أجهزة مركبة، وهكذا صعد الإنسان تلقائيًا ليتحرك نحو بعض الصناعات البسيطة ثم الصناعات الوسيطة، حتى اكتشف أن التقدم والرفاهية لا يأتيان إلا بعد ثورة صناعية شبيهة بتلك التى تواكبت ثم تعاقبت مع عصر النهضة الأوروبى.. نعم، إن الزراعة الكثيفة قد تمدنا بالغذاء، كما أن أفواج السياح المتدفقة قد تمدنا بالأموال.
ولكن الصناعة بخلاف كل القطاعات تضعنا على الطريق الأكيد نحو المستقبل الأفضل، فإذا كنا نقول إن التكنولوجيا هى توظيف العلم لخدمة الصناعة، فإننا نضيف إلى ذلك مباشرة أن تلك التكنولوجيا هى العلامة الفارقة بين دولة وأخرى فى عصرنا، فالنمور الآسيوية بعد الدول الأوروبية والغربية اعتمدت على الصناعة بالدرجة الأولى، ولنا فى التجربة الصينية الهائلة، بل المهولة، ما يؤكد لنا أن الصناعة هى التى تفى باحتياجات التقدم فى كل المجالات، لأنها هى المعبر الذى تمضى عليه، والجسر الذى تمر فوقه دولة من التخلف إلى التقدم، كما أن الصناعة تؤدى إلى تغيير شكل المجتمعات وإحداث نقلة كبرى تضعها فى مكان مختلف، فالمجتمع الصناعى يختلف عن المجتمع الزراعى، إذ إن طبيعة العلاقات الاجتماعية فى الريف بسيطة وسهلة، أما فى المدن الصناعية فالأمر يختلف، إذ إن العلاقات المعقدة والمتشابكة لمجتمع المصانع تختلف عن مجتمع الحقول، حيث إن علاقة الإنسان بالآلة تدفعه بالضرورة إلى مزيد من التعليم والتدريب وتنقله تلقائيًا إلى درجة أعلى فى سلم المجتمع، ولا ينتقص ذلك من أمر الزراعة بالطبع، فالصناعة امتداد لها، كما أن العمال هم فى ذات الوقت أبناء الفلاحين خرجوا من القرى إلى التجمعات الصناعية يبغون الرزق لتحسين أحوال المعيشة ويسعون نحو حياة لائقة.
وأنا إذ أتحدث عن بلادى، فإننى أرى أن مصر التى حققت طفرة كبرى فى مجالات الطرق والجسور والكبارى وشيدت مدنًا جديدة تتقدمها العاصمة الإدارية ومدينة العلمين وغيرهما هى المؤهلة حاليًا بعد هذه الثورة العمرانية للولوج فى قطاع الصناعة الثقيلة والخفيفة، وحتى القيام بالصناعات الوسيطة من خلال شركات عالمية تترك للعامل المصرى مراحل محددة فى تصنيع طائرة أو قاطرة أو سيارة.. إننى أقول ذلك والتفاؤل يملؤنى، لأن مصر فى السنوات الأخيرة قد تحولت إلى حد كبير وازدادت ثقتها فى ذاتها وأدركت أن لديها إمكانات كامنة وخبرات مدفونة تستطيع بها كلها أن تتحول إلى دولة صناعية مستقرة فى توازن بين هياكل الاقتصاد الوطنى من زراعة وصناعة وسياحة وغيرها من دروب الرزق ووسائل المعيشة. إن مصر مؤهلة لكى تكون واحدة من النمور الكبيرة خلال سنوات قليلة، ولنا فى دولتين، إحداهما آسيوية هى فيتنام، والثانية إفريقية هى رواندا، نموذجان لدول صغيرة نهضت فوق التخلف، وعلى مصر أن تعبر جسر النهضة قبل غيرها، فالفرص مواتية والظروف متاحة، ومصر دولة ذات موارد بشرية وطبيعية تصلح لتكوين قاعدة صناعية كبرى.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2227509