دعتنى أسرةٌ صديقةٌ لمشاركتهم زيارة ابنهم الذى يقضى عقوبة السجن فى واحدٍ من السجون الكبيرة على مشارف القاهرة، فلم أتردَّد، وشاركتهم فى الذهاب لزيارته؛ لأنه كان يريد أن يجد من يستمع إليه ممَّن يثق فيهم.
وفور خروجى من زيارته قابلتُ فى ردهة السجن شخصًا طويل القامة، ضخم الجُثَّة، قد أطلق لحيته، ونظر إلىَّ متهللاً ومُرحِّبًا، وأعترفُ بأننى لم أتعرَّف عليه فى البداية إلى أن أدركتُ أنه السيد «خيرت الشاطر» القُطب الإخوانى الشهير، الذى كان يقضى مع زميله السيد «حسن المالك» عقوبةً بالحبس امتدَّت لبضع سنوات، واحتضننى الرجل، وقبَّلنى، وطلب أن أتناول معه قدحًا من الشاى، وهو ما لم أتمكَّن منه بسبب الموعد المُحدَّد لمغادرة السجن، ووجدتنى أقول له فى مجاملة تلقائية أردِّدها لكل سجين: «فكَّ الله أسرك، ويسَّر أمرك»، وكان ذلك على ما أظنُّ فى شهر أكتوبر 2010، ثم قامت ثورة 25 يناير 2011، وخرج هو ورفاقه من السجن بطرق مختلفة لايزال بعضها يُمثِّل علامة استفهام حتى الآن.
وبعدها بعدة أشهر، وقبل أن يقتحم الإخوان الحياة السياسية المصرية بشدَّة، والتفكير فى ترشيح أحدهم لرئاسة الدولة أجريت اتصالاً بالسيد «خيرت الشاطر» لعلى أستطلع تصوُّرهم للحياة السياسية بعد الثورة، ورحَّب بى الرجل على الجانب الآخر من الهاتف ترحيبًا واضحًا، وطلب أن يأخذ أرقام هواتفى؛ لأنه يُريد التواصل معى.
ومضت الأيام، وتحوَّل الإخوان عن موقفهم الذى كانوا يؤكِّدون فيه أنهم لن يُقدِّموا مرشحًا لرئاسة الدولة، وأنهم يُفضِّلون أن يكونوا فى مقاعد المُعارضة يرقبون المشهد؛ بشرط إعطائهم مساحةً من حرية الحركة، ولكنَّ المفاجأة كانت بعد ذلك أنهم لم يكتفوا بمرشح واحد، وإنما قدَّموا «خيرت الشاطر» مرشحًا أصليًّا، و«محمد مرسى» مرشحًا احتياطيًّا.
عندئذٍ تحقَّق ما توقَّعه الكثيرون من محاولة التلاعب والعبث بالمواقف على النحو الذى عهدناه مع الجماعة منذ إنشائها، وذات يوم قُبيل الانتخابات النهائية بين «محمد مرسى» و«أحمد شفيق» اتَّصل بى صديقٌ طالبًا التوسُّط لدى حملة الدكتور «محمد مرسى» ليقبلوا مؤتمرًا صحفيًّا أسوةً بما جرى مع الفريق «أحمد شفيق»، وذلك لإحداث التوازن وإشعار جميع الأطراف بأن هناك انتخابات حقيقية.
ولم أجد أمامى من أتَّصل به إلا ذلك الشخص الذى قابلته فى السجن مُصادفةً، وأعنى به المهندس «خيرت الشاطر»، وبالفعل اتَّصلتُ برقم هاتفه فلم يرد، واتَّصلتُ برقم منزله، وردَّت علىَّ فتاة شابة كما هو واضح من الصوت، وعرفتُ أنها ابنته، فقلتُ لها إننى أريد التَّحدُّث مع والدها، وذكرتُ لها اسمى بوضوح كامل، وكانت المفاجأة أنها عادت إلى سمَّاعة الهاتف لكى تقول لى إن أباها يرى أن يكون الحديث بالنهار، وألا يأتى عن طريق اتِّصال بالمنزل.
عندئذٍ، قارنتُ فى أعماقى بين المقابلة التى تمَّت، والمكالمة الهاتفية الأولى بما جرى للبشر من تحوُّلات، ولقيادات الإخوان على وجه الخصوص، وآمنتُ بأن الظاهر غير الباطن، وأن الكلمات المعسولة، والعبارات الطيبة فى السجن وخارجه، تختلف تمامًا عن تلك المعاملة التى تلقَّيتُها منهم بعدما اقتربوا من السلطة، وتلك ظاهرة خطيرة تعكس نوعيةً من السَّاسة لا أمل فيهم، ولا رجاءَ منهم.
وأتذكَّر أننا دُعينا بعد ثورة يناير بأشهر قليلة إلى حفل كبير فى أحد الفنادق الشهيرة بالقاهرة لحضور إعلان حزب الإخوان المسلمين (الحرية والعدالة)، وحضره رموز المجتمع المصرى كله؛ فقد كُنَّا نأمل أن تكون تلك بدايةً لحياة سياسية جادَّة، ومشاركة فاعلة فى بناء الوطن بعيدًا عن التصرُّفات الخفية، والدهاليز التى تعوَّدت عليها الجماعة منذ نشأتها، ولكنَّ خيبة الأمل كانت كبيرة عندما اكتشفنا أن ذلك كان وهمًا لا جوهر له، وسرابًا لا يُقدِّم للوطن إلا أسباب الانقسام، وعوامل الفرقة، وشيوع العنف.
ولابُدَّ أن أعترف هنا بأن أحداث السنوات الأخيرة كانت كاشفةً لكثير من الحوادث الغامضة فى تاريخنا الحديث؛ فلقد عرفنا مؤخرًا من هم الذين أحرقوا القاهرة فى 26 يناير عام 1952، ومن هم الذين لا يؤمنون بالوطن، مع أن نبى الإسلام هو الذى قال وهو يترك مكة: «والله إنكِ أحبُّ بلاد الله إلىَّ، ولولا أن أهلكِ أخرجونى ما خرجتُ»، فالوطن هو المولد، والمستقر، والمصير.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 ايام العدد 242
تاريخ النشر: 7 سبتمبر 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b2%d9%8a%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d9%84%d9%84%d8%b3%d8%ac%d9%86/