عندما التحقتُ بالسلك الدبلوماسى فى نهاية عام 1966 نظَّم «معهد الدراسات الدبلوماسية» دورةً تدريبيةً عندما كان مقرُّه فى المبنى المُلحق بـ«أكاديمية ناصر العسكرية» بحى «الدقى» قبل أن ينتقل المعهد إلى مقرِّه الحالى فى «ميدان التحرير».
وكان من ضمن تدريبات المعهد حينذاك أن نأخذ جلسات للتدريب على إعداد المائدة الدبلوماسية والأساليب الصحيحة والراقية فى آداب تناول الطعام، واختار لنا المعهد خبيرًا كبيرًا تقدَّمت به السن، كان يعمل بالقصر الملكى قبل ثورة 1952، وعندما جلس «جورج رهبة» على رأس مائدة الطعام، وتحلَّقنا حوله، بدا الرجل مُنزعجًا من سلوكيات أبناء الطبقة المتوسطة من الدبلوماسيين القادمين من أعماق الريف، وأقاليم مصر؛ فعندما جاءت أطباق «الملوخية» وجد معظم الجالسين يقطعون الخبز، ويجعلونه «أذن القطة»، فقال: يا حضرات، ليس هذا أسلوبًا للموائد الدبلوماسية؛ فأنت ترشف بالملعقة قليلاً، ثم تتبعها بقطعة خبز، ولكنَّ ذلك الأسلوب «المصطباوى» لا يكون أبدًا أمام الأجانب، ثم لاحظ أن أحد زملائنا يدخل ملعقة الأرز إلى أعماق فمه فقال له: «يا أستاذ، إننى أخشى أن تخرج الملعقة باللوزتين!»، ثم اتَّجه إلى زميل آخر لاحظ إقباله الشديد على الطعام والنَّهَم الزائد، فقال له: «أما أنت، فيجب أن تتناول طعام العشاء فى منزلك قبل أن تذهب لعشاء رسمى حتى لا تكون هناك ملاحظات فاضحة على طريقتك التى لا مُبرِّر لها».
وفى نهاية الجلسة نظر «جورج رهبة» إلى الأفق البعيد ثم تطلَّع إلى سقف القاعة الرائعة فى النادى الدبلوماسى «كلوب محمد على» بـ«ميدان التحرير»، وقال عبارةً لا أنساها؛ إذ كنتُ قريبًا منه فى مكان الجلوس.. لقد قال: «كم تغيَّرتِ كثيرًا يا مصر!»؛ ذلك أنه كان يشعر أن مصر بعد ثورة عام 1952 قد أصبحت أقلَّ رُقيًّا؛ حيث تراجع التأثُّر بالأجانب، ودخلت مصر عصر العمال والفلاحين من منظور وطنى جاءت به ثورة عبدالناصر.
ولابُدَّ أن أعترف بأن جلسات تدريب المراسم كانت من أفضل ما تعلَّمتُ فى تلك السنوات المُبكِّرة من شبابى، لقد كان السفير الراحل «عثمان توفيق» يُعلِّمُنا أساليب المُكاتبات باللغة الإنجليزية، ويُعلِّمُنا السفير الراحل «عثمان أرناءوط» إجراءات إعداد المُذكِّرة الدبلوماسية باللغة الفرنسية، وقد كان الأخير دبلوماسيًّا من طراز خاص، حاز جائزة الشعر الفرنسى للشعراء من وراء البحار، ولقد أذهلنى اتِّصاله بى منذ سنوات غير بعيدة يُعلِّقُ على مقال كتبته، وكنتُ أظنُّه قد رحل عن عالمنا؛ فلقد كان متقاعدًا فى الستينات، ولكنَّ الله أمدَّ فى عمره، ولم يرحل إلا منذ سنوات قليلة.
كما كانت جلسات إعداد المائدة شيئًا رائعًا نتعلَّم فيها كيفية استخدام المائدة، والانتقال بأدواتها من الأبعد إلى الأقرب، بحيث تستطيع أن تتنبَّه لنوعية الطعام بمجرد النظر إلى شكل الأطباق، وترتيب «الملاعق، والشوك، والسكاكين»، كذلك تعلَّمنا مراسم رفع العَلَم على السيارات، وكيفية تقديم الأصغر إلى الأكبر،والرجل إلى المرأة، فيما عدا حالة رئيس الجمهورية؛ فالكل يُقدَّم إليه مهما كانت رُتَبُهم رفيعة؛ فهو الرجل الأول فى البلاد، وتعلَّمنا أيضًا ضرورة مضغ الطعام والفم مُغلق، وطبيعة أحاديث المائدة، وخصوصيتها.
أما عن الملبس فحدِّث ولا حرج، وأنا أتذكَّر أن السفير «محمد التابعى»، رحمه الله، الذى كان مديرًا لـ«معهد الدراسات الدبلوماسية» أثناء دراستى فيه، لاحظ أن أحد الزملاء من المُلحقين الدبلوماسيين الشباب كان عازفًا عن وضع رابطة العُنق؛ لأنه كان رياضيًّا، ويقول إنه يشعر بالاختناق منها، فأجبره مدير المعهد على ارتدائها، وهدَّده بالفصل من السلك الدبلوماسى إن لم يلتزم بقواعد الملبس المعهودة فى ذلك الكادر الخاص، ومن مُفارقات القدر أننى أصبحتُ مديرًا لـ«المعهد الدبلوماسى» بعد ربع قرن من دراستى فيه، وجاءنى السفير «محمد التابعى» فى أواخر سنوات عمره مُتَّكئًا على حفيده المُلحق الدبلوماسى الدارس عندى، وقد أصبح هو الآخر سفيرًا الآن فى إحدى الدول الأفريقية، ولا أستطيع أن أصف شعورى عندما رأيتُ مدير المعهد الذى درستُ على يديه يدخل مكتبى وأنا فى موقعه بعد ربع قرن، وتهلَّلتُ لذلك، ورحَّبتُ بالسفير الكبير ترحيبًا شديدًا، وكانت سعادته هو لا تُوصف على الجانب الآخر.
وأنا أدعو الآن إلى ضرورة التدقيق فى دراسة المراسم بوزارة الخارجية، وتدريب الدبلوماسيين تدريبًا يليق باسم «مصر» العريقة التى عرفت أروع وأرقى التصرُّفات البروتوكولية، والإجراءات المراسمية، خصوصًا فى العصر الملكى مثلما هو الأمر فى النُّظُم الملكية عمومًا، وأنا أدعو بهذه المناسبة إلى الارتقاءبحفلات تقديم أوراق الاعتماد للسفراء الأجانب أمام رئيس الجمهورية وإعطائها وقتًا كافيًا وإثرائها مراسميًّا؛ فقد تقلَّصت كثيرًا فى العقود الأخيرة!
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 243
تاريخ النشر: 14 سبتمبر 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%87%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%a8%d9%84%d9%88%d9%85%d8%a7%d8%b3%d9%89-%d9%88%d8%a8%d8%b1%d9%88%d8%aa%d9%88%d9%83%d9%88%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%b9%d8%a7%d9%85/