عندما بدأتُ عملى فى القنصلية العامة بـ«لندن» عام 1971 كان هناك أزهرىٌّ مرموقٌ يشغل منصب مدير المركز الإسلامى فى «لندن»، وهو المركز الذى تمَّ نقله إلى أرض جديدة فى «حدائق الريجنت»، وهى أرض مُهداة من الدولة المصرية فى مقابل أرض أخرى للحكومة البريطانية على ضفاف «نيل القاهرة» منذ عهد الملك «فؤاد».
لقد كان ذلك العالم الأزهرى الراحل هو «د. عبدالجليل شلبى» الذى كان إلى جانب عمله مديرًا للمركز يدرسُ للدكتوراه فى «جامعة لندن» ويتردَّد معى على مكتبة «المتحف البريطانى»، حيث مصادر الدراسة لكلٍّ مِنَّا، وعرفته عن قرب؛ فقد كان كُتلةً بشريةً من السَّماحة وحُسن الخُلُق، وكان يُجسِّد أمامى صورة المسلم الحقيقى باعتداله، ووسطيته، وعُمق إيمانه، كما كنتُ أحيانًا أستقبله فى مكتبى بالقنصلية عالمًا فاضلاً وصديقًا عزيزًا، وقد حكى لى ذات يوم قصة لا أنساها؛ لقد قال الشيخ الوقور إنه كان فى مكتبة المتحف البريطانى منذ يومين ورأى الفتاة المسئولة عن القسم الذى يقرأ فيه ويُصوِّر الوثائق منه وهى تبكى، فسألها عن السبب، وعرف منها أن مخطوطًا عربيًّا مهمًّا يبدو مفقودًا، وأنها قامت بالتفتيش عنه لعدة ساعات دون جدوى ربَّما لأنها لا تُجيد العربية، وأظن أن ذلك الكتاب كان هو -إن لم تخُنِّى الذاكرة- «الفتوحات المكية لابن عربى».
ومضى «د. عبدالجليل شلبى» يروى لى أنه هدَّأ من روع الفتاة، ودعا الله أن تجد المخطوط المفقود، ثم سألها: متى تنتهين من عملك؟ فقالت له: فى الخامسة مساءً، فقال لها: سوف أحضر هنا ونبقى معًا لكى أبحث معكِ بين الكتب لعلِّى أجد المخطوط المفقود، فشكرته ووافقت على العرض الطيب الذى يمكن أن ينقذها من عقوبة الفصل من العمل.
وبالفعل، جاء الشيخ فى الخامسة مساءً وشمَّر عن ساعديه والفضيلة تشعُّ من عينيه، وبدأ يُفتِّش باحثًا عن الكتاب فى أرفف القسم الكبير فى المكتبة العريقة والفتاة ترقبه فى قلق، وقد ظل كذلك لأكثر من ساعتين ثم صاح قائلاً لها: لقد وجدته، فانخرطت الفتاة فى البكاء مرةً أخرى بدموع الفرح، وأكبرت للشيخ المصرى شهامته ومعونته لمن يحتاج إليه فى الظروف الصعبة.
وقد علمتُ منه بعد ذلك أن الفتاة ظلَّت على تواصل دائم به، وكانت تُناديه بكلمة «يا أبى»، وبدأت تقرأ أكثر عن الإسلام؛ ذلك الدين الذى يجعل من أتباعه الحقيقيين من هم مثل هذا الشيخ الأزهرى، ولم يمضِ إلا عامان، وعلمنا أن الفتاة أعلنت إسلامها، وبدأت التبحُّر فى دراسة الشريعة الإسلامية والقراءة فى أصول الدين، كما ظلَّت تحكى لكل من تعرف قصة النجدة الإلهية التى جاءتها من خلال ذلك الشيخ المسلم.
ولقد حرصتُ دائمًا على أن تكون علاقتى بالدكتور «عبدالجليل شلبى» علاقة وثيقة؛ فهو نموذج للمسلم الحقيقى كما أراده الله ونبيه الكريم؛ لا يعرف الغلو ولا التطرُّف، وليس لديه نزعات تعصُّب أو تشدُّد، بل كان سمحًا طيبًا ودودًا، وأسفتُ كثيرًا عندما تم نقله من «لندن»، وأتذكر أننى عندما كنت أتَّصل به فى منزله أن إحدى بناته كانت تردُّ قائلةً: السلام عليكم، ثم تستطرد فى الحديث بلغة إنجليزية رفيعة لكى تدلنى أين ذهب والدها، وكيف ألتقيه؛ فقد ربَّى بناته على خلق الإسلام فى انفتاح وشفافية واستيعاب للمزايا الأخلاقية لدى الغربيين من غير المسلمين أيضًا.
وعندما عاد «د. عبدالجليل شلبى» إلى «القاهرة» وصل إلى موقع أمين عام «مجمع البحوث الإسلامية»، وكان يحظى بالاحترام والتوقير فى أروقة «الأزهر» بسبب تاريخه الناصع وعلمه الغزير وخلقه الرفيع، ولقد استكتبته «جريدة الجمهورية» بعمود يومى لعدة سنوات حتى يفيد القرَّاء بعلمه وتجربته العريضة فى الدين والدنيا.
إننى كلما تذكَّرتُ «د.عبدالجليل شلبى» وددتُ لو أننا استنسخنا منه الآلاف من رجال الدين الإسلامى، أو حتى المئات؛ لأننى واثق أن الأمر سيكون مختلفًا عمَّا نحن عليه، فالإسلام -أيُّها السادة- هو سماحةٌ رحبةٌ، وقدوةٌ طيبةٌ، ومعاملةٌ حسنةٌ، وفهمٌ صحيحٌ للقرآن الكريم وسُنَّة النبى العظيم، بعيدًا عن العنف العشوائى، وترويع الآمنين، والعدوان على المسلمين وغير المسلمين.
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 244
تاريخ النشر: 20 سبتمبر 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b2%d9%87%d8%b1%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d9%8a%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%aa%d8%a7%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%86%d8%ac%d9%84%d9%8a%d8%b2%d9%8a%d8%a9/