فى مطلع عام 2012 جمعتنى مائدةٌ واحدةٌ مع الراحل الوزير «عمر سليمان»، رئيس المخابرات العامة المصرية الأسبق، وقد ربطتنى به صلةٌ طيبةٌ ومودةٌ دائمةٌ، وكان ذلك فى أحد أفراح أصهاره من العائلة الأباظية، وكُنَّا فى أجواء الترشُّح للانتخابات الرئاسية الأولى بعد ثورة 25 يناير 2011، وكان أحد المرشحين الذين ينتمون إلى التيار الدينى قد قام باستعراض أنصاره، فبلغ طول موكبه المسافة من «الدقى» إلى «مصر الجديدة»، حيث مقر مفوضية الانتخابات التى تستقبل أوراق الترشح حينذاك، ولذلك كان محور الحديث هو تلك الأحداث الساخنة التى كانت تمرُّ بها «مصر» وقتها.
وقد قال لى إنه بعد ذلك المشهد على شاشات التلفزيون تلقَّى اتصالاً هاتفيًّا من أمير سعودى بارز يسأل السيد «عمر سليمان» إذا كان ما رآه حقيقة أم أنه مشهد مُفبرك، فقال له السيد «عمر سليمان»: «بل إن الأمر هو كما رأيته أنت يا صاحب السمو»، فاستطرد الأمير السعودى فى دهشة: «أتريد أن تقول إن هذا المرشح يمكن أن يجلس على المقعد الذى جلس عليه ملوك أسرة (محمد على)، و(جمال عبدالناصر)، و(السادات)، وغيرهم؟!»، فقال له «عمر سليمان» بتلقائية: «كل شىءٍ جائزٌ فى هذا الزمن».
وقد عبَّر الأمير السعودى عن دهشته البالغة مما رأى لأنه -حسب قوله- يرى أن قيمة «مصر» تبدو أكبر بكثير من ذلك، ولا يتصور أن تتدهور بها الأوضاع إلى هذا الحد.
وقد تحدَّث السيد «عمر سليمان» يومها عن عزوفه عن الترشُّح، وبعدها بأيام اتَّصل بى مدير مكتبه ليُخبرنى برغبة «عمر بك» فى أن أكتب له صيغةً للاعتذار، وقد فعلتُ ذلك، وجرى نشرها مع تعديل طفيف، وأتذكر أن الأستاذ «عادل حمودة» كان يجلس بجانبى، وأنا أكتب الصيغة، حيث كنَّا فى اجتماع مشترك أعدَّت له القوات المسلحة فى شكلندوة عن اقتصاديات الإنفاق العسكرى، ولكننى فوجئت بعد ذلك بفترة وجيزة بأن ضغوطًا على السيد «عمر سليمان» من بعض أنصاره قد جعلته يُغيِّر رأيه ويجمع التوكيلات للترشُّح للمنصب الكبير، وهو أمر لم يتم لخطأ إجرائى يتعلَّق بنقص عدد من التوكيلات المطلوبة، وقد كان أمرًا يُمكن تلافيه؛ لأنه كانت لديه توقيعات تزيد على المطلوب، ولكنَّ الأجواء فى وقتها جعلت استبعاده فى جانب معادلاً لاستبعاد السيد «خيرت الشاطر» على الجانب الآخر.
وأنا أظن مُخلصًا أن تلك الفترة من تاريخنا تحتاج إلى تمحيص من مؤرخيها، ونزاهة ممَّن يكتبون عنها؛ لأننا نفتقر إلى المعلومات الصحيحة والتحليل الدقيق للأحداث التى مرَّت بها «مصر»، مثل «واقعة الجمل»، و«ماسبيرو»، و«محمد محمود»، و«الداخلية»، و«الاتحادية»، وغيرها من الأحداث التى لا تخلو من الغموض، ولا تبرأ من التشابك الذى يحتاج إلى إجلاء وتوضيح.
وإذا كان قد أثير حول الوفاة السريعة للسيد «عمر سليمان» وما تردَّد حولها –خصوصًا أن رحيله قد حدث أثناء إجراء جراحة له- فهو أيضًا من الأمور التى سوف يحسمها التاريخ ذات يوم، وأنا أتذكَّر أنه قال لى إنه يُعانى فقط من مرض «البروستاتا»، وهو أمر شائع بين الرجال فى ذلك العمر، ولكننى شخصيًّا لم أسمع عن المرض الغريب الذى جرى الإعلان عنه كسبب لوفاته.
ولقد شغل السيد «عمر سليمان» منصبه الخطير أكثر من عشرين عامًا، وكان موضع الثقة المُطلقة للرئيس الأسبق «مبارك»، وقد اختاره نائبًا له بعد اندلاع الثورة، وكان ذلك اختيارًا متأخرًا؛ لأن «السيف كان قد سبق العذل»، ولم تكن الجماهير مُهيَّأةً للحلول التدريجية.
وبهذه المناسبة أيضًا فإننى أظن أن أحداث الربيع العربى قد اعتمدت على سيناريو ضخم لأحداث جرى تركيبها بشكل مفتعل، وإن كان هذا لا ينتقص من الدوافع الوطنية والضغوط الاقتصادية والاجتماعية التى حرَّكت الجماهير فى اتِّجاه استثمرته تدخُّلات أجنبية وقوى داخلية لتغيير المسار وتحريك الأمر فى اتِّجاه مصالحها على حساب الأهداف العليا لشعارات الثورة وآمالها.
إنها قصة طويلة، كما أن الرواية لم تتم فصولها، وقد نكتشف ذات يوم أن صراعات مكتومة حول السلطة فى «مصر» قد حرَّكت جزءًا من الأحداث فى تلك الفترة التالية لتنحِّى الرئيس المصرى بعد إدارة بطيئة لمجريات الأمور فى الأيام الثمانية عشر الفاصلة فى ثورة الشارع المصرى، ولاشكَّ أن رحيل «عمر سليمان» الذى كان يمثل «الصندوق الأسود» لعشرين عامًا كاملة كان شاهدًا عليها، أو مشاركًا فيها، أمرٌ يحتاج إلى تفسير رغم أننى مؤمن بالقضاء والقدر، ولكننى مؤمن أيضًا بإمكانية صناعة الحدث وترتيب الأحداث على النحو الذى يخدم غايات معينة قد لا تلتقى بالضرورة مع آمال الجماهير ومصالحها الحقيقية.
مصطفى الفقي ;
مجلة 7 أيام العدد 245
تاريخ النشر: 26 سبتمبر 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%85%d8%b1-%d8%b3%d9%84%d9%8a%d9%85%d8%a7%d9%86-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%b9%d9%88%d8%af%d9%89/