أقبل رمضان بعد عودتى من «فيينا» عودةً نهائيةً بأشهُرٍ قليلةٍ، وتسلَّمتُ عملى مُساعدًا لوزير الخارجية السيد عمرو موسى للشئون العربية والشرق الأوسط، ومندوبًا لمصر فى جامعة الدول العربية.
ومن خلال معرفتى بالسيد عمرو موسى لعشرات السنين، فإنه يُصبح شديد السَّعادة فى شهر رمضان؛ فالصيام يجعله صافىَ الذهن، لا تخلو تصرُّفاته من مَرَحٍ، ولا تبرأ من مودَّةٍ واضحةٍ تجاه الآخرين، وقبل الإفطار يُحبُّ أن يتحدَّث إلى أصدقائه حتى يقطع الساعات الأخيرة قبل موعد المدفع إذا لم يكن لديه عملٌ ضاغطٌ.
وذات يومٍ اتَّصل بى فى مكتبى قُبيل الرابعة عصرًا، وقال لى ماذا تفعل؟ إذا لم يكن لديك عمل فتعالَ إلى مكتبى. وبالفعل، أخذتُ المصعد من الدور العاشر إلى الثانى، حيث مكتب الوزير، ووجدُّته مُنشرحًا مُبتسمًا، وجلسنا نتسامر بعض الوقت، ثم قال لى فجأةً: لقد جاءت لى فكرة، قلتُ: وما هى؟ قال إن تُوفدك مصر إلى السودان -باعتبارها أهم الدول لنا- سفيرًا مُقيمًا لعامين أو أكثر تستقرُّ فيهما العلاقات، وتقفزُ أنت بها إلى آفاقٍ جديدةٍ، فقلتُ له: أنت تعلم أننى لا أُريد أن أُغادر مصر، وأننى اكتفيتُ بالعمل سنوات الخدمة فى الخارج فى لندن، ونيودلهى، وفيينا، فقال لى إننى أقترح عليك ذلك، وأنا متأكدٌ أنك ستنجح فى هذه المهمة، وسوف تُصدر -باعتبارك دبلوماسيًّا له مؤلفاته- كتابك عن خدمتك فى «الخرطوم»، وأتصوَّر أن عنوانه سوف يكون «أضاعها صلاح سالم وأعادها مصطفى الفقى» فى إشارة إلى رقصات الصاغ صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة فى جنوب السودان مُجاملة للتقاليد القبلية، وكيف أن الصحافة الأجنبية لقَّبته بـ«الميجور الراقص»، وربط البعض بين ذلك وبين التحوُّلات التى جرت فى الحزب الاتحادى بالسودان، والتى جعلت زعيمًا مثل إسماعيل الأزهرى يلفظ مبدأ الانضمام لمصر، ويتبنَّى خيار السودان المستقل، وهو ما جرى إعلانه فى أول يناير عام 1956، ومازالت ظروف تلك الفترة غامضةً، خصوصًا أنالبعض يرى أن الصدام بين عبدالناصر ونجيب قد أدَّى إلى مخاوف لدى السودانيين جعلتهم يُفضِّلون الابتعاد عن مصر الثورة.
ولقد قلتُ للسيد عمرو موسى يومها: إننى أدعوك إلى التوقُّف عن هذا الاقتراح؛ لأن ظروفى الشخصية لا تسمح بتنفيذه، وأرجو ألا يعرف الرئيس به؛ فقد يتمسَّك بالفكرة، وتكون مُشكلةً كبيرةً بالنسبة لى، إلا إذا كان المقصود هو الخلاص من وجودى فى وزارة الخارجية! وضحكنا معًا، وانتهى اللقاء، وكنت مدعوًّا لتناول طعام الإفطار فى منزل صديقى وزميل دراستى «أ. ممدوح عباس» رجل الأعمال ورئيس نادى الزمالك فيما بعد، وبينما أنا أجلس بعد الإفطار مباشرةً مع أصدقائنا، فإذا باتِّصالٍ على المحمول من مكتب الرئيس يطلب منِّى التوجُّه إلى أقرب تليفون أرضى؛ لأن الرئيس يُريد التحدُّث إلىَّ، وبالفعل أعطانى صديقى ممدوح رقم تليفون المنزل، وذهبتُ إلى حجرة منفردة أنتظر الاتِّصال الذى جاءنى بعد دقائق قليلة، وكان الرئيس الأسبق مبارك على الطرف الآخر، حيث بادرنى قائلاً: ما هى حكاية «أضاعها صلاح سالم وأعادها مصطفى الفقى»؟ فقلتُ له: يا سيادة الرئيس هذه بعض مُداعبات السيد عمرو موسى، والأمر غير مطروح حاليًا، فضحك الرئيس، وقال لى: إنك مسئول عن الشئون العربية كلها، ومن ضمنها السودان، فلا داعى لأن تترك موقعك، خصوصًا أننى فهمتُ أنك لا تُريد أن تعمل سفيرًا فى الخارج مرَّةً أخرى، وبدأ يتحدَّث فى موضوعات مختلفة، وكان ودودًا كعادته.
ولقد اتَّصل بى السيد عمرو موسى بعد ذلك بساعةٍ تقريبًا وهو يُقهقِه ضاحكًا، وقال لى: لقد أفلتَّ من الفخِّ، وخدمتكَ الظروف، رغم أننى كنتُ أرى ذلك قرارًاصائبًا، فقلتُ له: هذا صحيح لو كانت ظروفى تسمح، فالسودان عزيز علينا جميعًا.
لقد تذكَّرتُ تلك القصة بسبب صدور مُذكِّرات السيد عمرو موسى وما نجم عنها من لغطٍ شديدٍ وحوارٍ دائرٍ ينقسم فيه الناس بين مؤيدٍ له ورافضٍ لبعض الفقرات فيه، خصوصًا ما يمسُّ العصر الناصرى ومكانة الرئيس الراحل شخصيًّا، رغم أن عمرو موسى وجمال عبدالناصر يشتركان فى حفيدين من ابنة الأول، وحفيد الثانى.
وما أكثر النوادر التى تجمعنى بالسيد عمرو موسى، وسوف يكون لها مكان آخر، فلقد سألتُه أيام الانتخابات الرئاسية الأولى عام 2012 مازحًا: لو أننى أيَّدتُكفما هو المقابل الذى أتوقَّعه منك؟ فقال لى على الفور: سوف تتبوَّأ منصب صديق الرئيس!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 246
تاريخ النشر:4 اكتوبر 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a3%d8%b6%d8%a7%d8%b9%d9%87%d8%a7-%d8%b5%d9%84%d8%a7%d8%ad-%d8%b3%d8%a7%d9%84%d9%85-%d9%88%d8%a3%d8%b9%d8%a7%d8%af%d9%87%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%82%d9%89/