كان الرئيس الأسبق «مبارك» يتَّسم بالودِّ مع الآخرين فى غير أوقات العمل، وكان دائمًا يُداعبنى مُتسائلاً: ماذا أكلتَ؟ ويعتقد أننى مُحبٌّ للطعام شأن كل البشر؛ لذلك كانت تلك مادة للحديث أحيانًا أثناء الوجود فى المركز الرياضى للعب الاسكواش الذى لا أُجيده، ولكنَّ الرئيس فرضه علينا فرضًا، ولم أحقِّق فيه نتائج ملحوظة على الإطلاق.
وفى إحدى السفريات البعيدة على طائرة الرئيس دخلت إحدى المُضيفات، وكانت هى الحاجة «حميدة صلاح الدين» -على ما أذكر- وهى أخت عزيزة لى، كما أن علاقتى بزميلاتها الأخريات كانت طيِّبة؛ فكل من كانت لديها مشكلة تلجأ لى للمُساعدة فى حلها، ولذلك قالت لى الحاجة «حميدة»: «نُريدك قُرب كابينة الطيارين؛ لأن لدينا شيئًا نُريدك أن تتذوَّقه». وأضافت: «إنه طبق (أم على) من مطبخ الطائرة، لكى تكون أول من يأكل منه محبَّةً لك، وتقديرًا للعلاقة الوثيقة معك».
وجلستُ على مقعد جانبى فى المقدمة، وحولى أربع مُضيفات يتحدَّثن إلىَّ، وأنا ألتهم الطبق، وكانت إحداهنَّ تُدخِّن سيجارة -إذ كان التدخين لايزال مُباحًا فى الطائرات أثناء ثمانينات القرن الماضى- وفجأةً، وجدتُ الضوءَ يخفُت، وكما لو أن ظلاً قد جاء ليُغطِّى ضوء المصباح الذى يصل إلى الطبق، ولاحظت صمتهنَّ تمامًا بشكلٍ مُفاجئ؛ بل إن المُضيفة التى كانت تُدخِّن السيجارة أطفأتها فى يدها بسُرعةٍ ظاهرةٍ، وبعد ثوانٍ قليلةٍ اكتشفتُ أن هناك شيئًا غير طبيعى، فنظرتُ إلى أعلى فإذا بالرئيس «مبارك» يطلُّ علىَّ مبتسمًا قائلاً: هل استمتعتَ بطبق «أم على»؟ فقفزتُ من مقعدى مُبتسمًا، وألهمنى الله بإجابةٍ مُناسبةٍ فقلتُ له: يا سيادة الرئيس، إن المُضيفات «العكاريت» طلبن منِّى أن أتذوَّق طبق «أم على» قبل أن يصل إلى سيادتكم تأمينًا لكم، وحتى يكون هناك رأى عن درجة إتقان صُنعها، فضحك الرئيس كثيرًا، وقال لى: هكذا أنت دائمًا قادرٌ على الخروج من أى موقف! وضحكنا جميعًا، والمُضيفات تعلو وجوههنَّ الصُّفرة ولا ينطقن بكلمة.
وما أكثر النوادر على الطائرة أثناء رحلات الرئيس؛ فقد كان الكاتب الصحفى «مكرم محمد أحمد»، وإلى جانبه رئيس هيئة الاستعلامات وقتها الراحل
«د. ممدوح البلتاجى» يجلسان أمامى مباشرةً، ويتباريان فى تدخين السجائر، فترى الطائرة مُظلمة، ونحن نعبر جبال «الهمالايا» فى طريقنا إلى «الصين»، ولا يوجد إلا نقطتا ضوء أحمر من سيجارة كل منهما، حيث لا يتوقَّفان عن التدخين حتى وهُما شبه نائمين! وكنت أضيق بذلك، ولكن لا مفرَّ، فأغلبية الطائرة تُدخِّن، ولذلك حسنًا فعلت المنظمة الدولية للطيران المدنى بمنع التدخين على الطائرات، وكانت الطائرة أحيانًا تهتز اهتزازًا شديدًا، وتضطرب صعودًا وهبوطًا بسبب المطبَّات الهوائية بشكل يُقلقنى كثيرًا، وكان الرئيس الأسبق يعلم بذلك، فكانت إذا بدأت الاهتزازات يُنادى سكرتيره الخاص الراحل اللواء «جمال عبدالعزيز» قائلاً له: اطلب من «مصطفى» إحضار البوسطة والمجىء إلىَّ فى صالون الطائرة، وكان هذا أمرًا صعبًا فى ظل الهزَّات العنيفة، حيث كنتُ أحرص على ربط الحزام بشدَّة، متصوِّرًا أن ذلك تأمينٌ لى، وما كان هناك بُدٌّ أمامى إلا التوجُّه إلى الرئيس، وهو يبدو هادئًا ومُستمتعًا، ولا يشعر بأى قلق، ثم قال لى: إن التى تركبها الآن مثل الدرَّاجة بالنسبة للطائرة العسكرية، وسوف أحرص عند عودتنا إلى «مصر» على أن أطلب من أحد الطيارين المُقاتلين أنيصطحبك فى جولة جوية يقوم فيها بقلب الطائرة عدَّة مرَّات حتى يتم تطعيمك ضد الخوف من الطيران! فقلت له: يا سيادة الرئيس، أرجو ألا تُفكِّر فى ذلك؛ لأن لياقتى البدنية ليست مثل الطيارين، كما أننى أخشى كثيرًا ألاعيب الطيران، ثم بدأتُ فى عرض البوسطة عليه وهو يُناقشنى وأنا أمامه على المقعد شبه مُغيَّب وغير قادر على التركيز؛ لأن أعصابى مشدودة مع تحرُّكات الطائرة.
ولقد كان الرئيس الأسبق يُنادى أحيانًا كبير الطيارين الكابتن «جمال لطفى»، ويتَّفق معه لكى يقول: «إننا سوف ندخل فى سحابة رعدية سوداء، وربنا يُسترإن شاء الله»، ثم ينظر الرئيس إلى وجهى فإذا بى قد دخلتُ فى مرحلة اللاوعى تقريبًا، حتى اكتشفتُ فى النهاية أنها مُداعبة من الرئيس، فكنتُ أقول له: ياسيدى الرئيس، إننى مواطن من خمسين مليونًا -عدد سكان «مصر» وقتها- ولكنَّك أنت رئيس الدولة، فكان يضحك ويعتبر ذلك نوعًا من المُداعبة.. إنها ذكريات لا تُنسى، وأيام لن تعود.
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 248
تاريخ النشر: 17 اكتوبر 2017
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%d8%a3%d9%85-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%81%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%a7%d8%a6%d8%b1%d8%a9/