عملتُ مع السفير «سعد الشاذلى» قرابة عامين، عندما كان سفيرًا لـ«مصر» فى العاصمة البريطانية، بعد إقصائه من موقعه رئيسًا لهيئة أركان حرب القوات المسلحة فى عام 1973.
ولقد جاءنا الرجل الذى كان يقود أكثر من نصف مليون مقاتل لكى يقود عشرة من الدبلوماسيين فى «لندن»، ولكنه تعوَّد على الخدمة خارج الوطن، حيث كان ملحقًا عسكريًا لـ«مصر» فى بريطانيا فى ستينات القرن الماضى، كما قاد كتيبة الأمم المتحدة فى «الكونغو» أثناء أزمته الشهيرة فى الوقت الذى كان فيه المشير «أحمد إسماعيل» هو المستشار العسكرى الموفد من «مصر» للدولة هناك.
وذات صباح بارد من أيام «لندن» فى عصر الضباب عندما كان الفحم لايزال المصدر الرئيسى للطاقة، تلقَّيت اتصالاً هاتفيًّا فى منزلى يوم السبت -أى فى عطلة الأسبوع- وكان المتحدث هو السفير «سعد الشاذلى» الذى طلب منِّى التوجُّه إليه فى مبنى السفارة، حيث كنت مسئولاً عن سكرتارية الرمز، وهى التى يُسمِّيها العسكريون سكرتارية الشَّفرة، ودخلت عليه المكتب فإذا به يقول إن هناك أمرًا جللاً قد حدث؛ إذ أذاعت وكالة رويترز الإخبارية بطريق الخطأ أن زوجة السفير المصرى فى «لندن» قد جرى توقيفها فى أحد المحلات بشارع «أكسفورد» بتهمة سرقة بعض الملابس، وكان هذا الأمر شائعًا فى تلك الفترة؛لأن المصريين وغيرهم من الوافدين إلى «لندن» لم يكونوا قد تعوَّدوا بعد على وجود كاميرات ترصد كل شىءٍ فى أنحاء المتجر الكبير، فكان بعضهم من ضعاف النفوس يعتقد أن كل شىءٍ بلا رقيب، فيأخذ قطعة ملابس ويخرج بها مُتصورًا أنه بمجرد خروجه من باب المحل لم يعد طرفًا فى مُساءلة ما، وواقع الأمر أنه كان يجرى رصده فور خروجه من الباب ثم احتجازه على الفور.
والواقع أن ذلك الخبر المدسوس جاء نتيجة خطأ مردُّه أن زوجة أحد الشخصيات المصرية الكبيرة فى ذلك الوقت قد وقعت فى ذلك الفخ، وكانت تحمل جواز سفر دبلوماسيًّا مكتوبًا عليه زوجة سفير مصرى لتغطية دور زوجها فى مهمة محددة، وبالطبع لا صلة لذلك بزوجة السفير المصرى بـ«لندن»، وهى السيدة «زينات متولى» شقيقة الفريق «سعد الدين متولى» الياور العسكرى للرئيس الراحل «عبدالناصر»، وهى سيدة فاضلة أطال الله فى عمرها.
وقد قال لى السفير الشاذلى: ابعث برسالة عاجلة إلى الخارجية المصرية للموافقة على طلبى من السلطات البريطانية برفع الحصانة عنِّى لمُقاضاة وكالة الأنباء المذكورة مهما كانت العواقب؛ لأنهم أساءوا إلى زوجتى بغير حق نتيجة إسقاط حرف التعريف فى كلمة «سفير» كما اعتادوا من قبل فى القرار 242 الخاص بأزمة الشرق الأوسط، والذى خلط فيه البريطانيون بين كلمتى «أراضٍ محتلة» و«الأراضى المحتلة»، فأرسلت البرقية على التوِّ إلى «القاهرة»، ولم يأتينا رد عليها حتى الآن؛ لأن الرئيس «السادات» كان يتنمر بالفريق «سعد الشاذلى» بعد الخلاف حول «ثغرة الدفرسوار» المعروفة.
وما إن رفع السفير القضية أمام القضاء البريطانى العاجل طالبًا تعويضًا قدره مائة ألف جنيه إسترلينى -وكان ذلك مبلغًا ضخمًا عام -1974 فإذا بوكالةالأنباء تُعلن عن رغبتها فى التفاوض المباشر مع السفارة خارج إطار المحكمة للوصول إلى تسوية لا تضر بمصالح الوكالة ومصداقيتها، وبعد مداولات قَبِل السفير «سعد الشاذلى» مبلغ خمسة وستين ألف جنيه إسترلينى على سبيل التراضى، ونادانى يومها، وقال: اكتب يا أبا سارة -فقد كان ينادينى باسم ابنتىالصغرى التى وُلدت أثناء وجوده فى «لندن»- هذا هو التوزيع العادل للمبلغ الذى حصلنا عليه:
شراء سيارة صغيرة للسيدة قرينتنا ترضيةً لها عن ضرر لحق بها.
إرسال عشرين ألف إسترلينى لجمعية الوفاء والأمل كترضية للحكومة المصرية وللرئيس «السادات» شخصيًّا والسيدة قرينته حتى لا يجرى فتح النيران علينا من عاصمة بلادنا!
المبلغ الباقى وقدره يزيد على أربعين ألف إسترلينى يُوضع فى المركز الثقافى المصرى لرعاية الطلاب الوافدين -مصريين وعربًا- ممن يحتاجون إلى دعم مالى فى ظروف صعبة.
وبذلك أسدل ذلك السفير الحكيم والضابط الشجاع الستار عن قصة لا أنساها أبدًا، ومازلتُ أتذكَّر أنه أثناء التفاوض قدَّم مندوب السفارة فى التحكيم مُذكِّرةً قال فيها: إن الشخص المطعون فى حق زوجته هو رئيس الأركان فى أول حرب ينتصر فيها العرب على «إسرائيل»، كما أنه كان مُلحقًا عسكريًّا ومستشارًا دوليًّا، فضلاً عن أنه معروف بالبسالة ورباطة الجأش وقوة الشكيمة.
تلك شهادتى للتاريخ فى حق رجل عظيم لم يعد موجودًا بيننا.
مصطفى الفقي ;
مجلة 7 أيام العدد
تاريخ النشر: 25 اكتوبر 2017
رابط المقالة : https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%81%d9%8a%d8%b1-%d8%b3%d8%b9%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%a7%d8%b0%d9%84%d9%89-%d9%88%d8%b3%d8%b1%d9%82%d8%a9-%d9%81%d9%89-%d9%84%d9%86%d8%af%d9%86/