تقدَّم أستاذ التاريخ اليونانى وحضارته الراحل «د. مصطفى العبادى» من جامعة الإسكندرية باقتراح إعادة إحياء «مكتبة الإسكندرية»، وكان ذلك فى منتصف ثمانينات القرن الماضى، وقد تلقَّف الدعوة وزير التعليم حينذاك «د. أحمد فتحى سرور»، وشارك فيما يمكن تسميته بـ«لقاء فيينا» الذى انعقد له مؤتمر صحفى جرى الإعلان فيه رسميًّا عن اتِّجاه الدولة المصرية إلى إنشاء «مكتبة الإسكندرية» فى نفس مكانها تقريبًا الذى اختاره «بطليموس الثانى» فىالقرن الأول الميلادى.
وقد وقف الرئيس الأسبق «مبارك»، والسيدة قرينته داعمين لفكرة المشروع بكل قوة، ومازلتُ أتذكر -وقد كنتُ وقتها سكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات- أننا كنا فى مدينة «أسوان» عندما أعلنت «مصر» عن فتح باب المساهمات العربية والدولية فى إنشاء المكتبة باعتبارها تراثًا إنسانيًّا مشتركًا، ولذلك جرتتسمية ما حدث باسم «إعلان أسوان».
وقد تلقَّيتُ شخصيًّا معظم مكالمات المساهمة فى هذا الصرح الدولى الكبير، وكانت كلها تتراوح ما بين عشرة وعشرين مليون دولار إلى أن تلقَّيتُ اتصالاً هاتفيًّا من «بغداد»، وكان المتحدث هو السيد «حامد حمادى» سكرتير الرئيس الأسبق «صدام حسين» الذى قال لى: إن الرئيس –العراقى- طلب منِّى أن أسألك مباشرةً عن أعلى رقم تلقَّيته كمساهمة فى إعادة بناء هذا الصرح الحضارى الذى لا مثيل له، فأجبته: إنه مبلغ عشرين مليون دولار من حكيم العرب الشيخ «زايد بن سلطان آل نهيان»، فأجابنى على الفور: إذن تزيد عليها «العراق» مليونى دولار أخرى فيكون إسهام الرئيس «صدام حسين» اثنين وعشرين مليون دولار، وعندما نما إلى علم زملائى ما حدث قالوا لى: ليتك قلت إن الشيخ «زايد» أعطانا أربعين مليون دولار وكنا نحصل على اثنين وأربعين مليون دولار! فقلت لهم: إن «العراق» ليست بهذه السذاجة، وهم قادرون على مراجعة الأرقام لدى العواصم الأخرى، كما أن الصدق هو طوق النجاة أمام الأزمات الشديدة والمواقف الحرجة.
وأنا أعتبر أن «إعلان أسوان» كان رمزًا اجتمع حوله عشرات الألوف من الذين يؤمنون ببعث التاريخ وإحياء التراث؛ إذ إن «مكتبة الإسكندرية» الأولى كانت صرحًا تُباهى به «مصر» فى ذلك الوقت المبكر من تاريخ المعرفة الإنسانية، فنقلت المكتبة علوم الفراعنة إلى «اليونان»، ثم «الرومان» حتى وصلتلتكون هى الخلفية الحقيقية لعصر النهضة الأوروبية بعد ذلك.
ولقد كان إقبال الدول العربية والأجنبية على فكرة إعادة إنشاء المكتبة والإسهام فى تشييدها هو تعبير أيضًا عن حضارات البحر المتوسط الذى نعتبره بحيرة الحضارات، بدءًا من الحضارة الفرعونية المُلهمة، مرورًا بالحضارات على الضفة الأخرى فى جنوب أوروبا حتى كانت السبيكة النهائية هى ما وصلت إليه الحضارات من تفاعل وصل بالبشرية إلى المراتب العليا التى بلغتها.
ولقد كان افتتاح «مكتبة الإسكندرية» الجديدة حدثًا ضخمًا وقف وراءه رئيس الدولة حينذاك، والسيدة قرينته، بالاهتمام الكامل والدعم المستمر حتى أصبحت مركز إشعاع يضم المتاحف ومراكز المخطوطات وترميمها بأسلوب متقدم يكاد يكون هو الأول فى منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن الآثار التاريخية ومعالم التراث لدول هذه المنطقة إلى جانب القاعات والقُبَّة السماوية، وأنا أراها أحيانًا مثل خلية النحل تموج بأنشطة بغير حدود وتتواصل مع العالم دون انقطاع وتعطى لـ«مصر» مذاقها الحضارى إلى جانب المؤسسات الأخرى للقوى الناعمة المصرية، ومازلت أتذكر سعادة الرئيس الأسبق ونحن نبلغه بأرقام المساهمات العربية والإقبال الشديد على التراث المصرى العريق الذى لا ينازعها فيه أحد.
وسوف يظل «إعلان أسوان» فى ذاكرة المكتبة تعبيرًا عن الحماس لها ودعم قيامها، وأتذكر وقتها أن الإسهامات العربية كانت استفتاءً على شعبية «مصر» ومكانتها، واعترافًا ضمنيًّا بالدور المصرى فى نشر الثقافة والعلوم والآداب منذ عشرات القرون، وذلك بعد قطيعة دبلوماسية دامت عقدًا كاملاً، كما أن الإسهام العربى يبدو ردًّا على اتهام ظالم يشير إلى العرب الفاتحين بأنهم من أحرقوا «مكتبة الإسكندرية» الأولى، وليس ذلك صحيحًا على الإطلاق بوقائع التاريخ وبراهين الزمان.
وها هى «مكتبة الإسكندرية» منارة يسعى إليها ويرتادها كبار الشخصيات العالمية الذين تتصل فى أذهانهم ذاكرة التاريخ بين الماضى والحاضر ويدركون أن هذه المكتبة الفريدة هى تعبير عن نموذج خاص للمعرفة الإنسانية عبر العصور، وستبقى «أسوان» هى المدينة التى أهدت إلى «الإسكندرية» المقومات المادية لإحياء مكتبتها العريقة وبعث مكانتها من جديد!
مصطفى الفقي ;
مجلة 7 أيام العدد
تاريخ النشر: 3 نوفمبر 2017
رابط المقالة : https://www.7-ayam.com/%d9%85%d9%83%d8%aa%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%83%d9%86%d8%af%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d8%a5%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%86-%d8%a3%d8%b3%d9%88%d8%a7%d9%86-1990-%d8%af-%d9%85%d8%b5%d8%b7%d9%81/