تتميز العاصمة النمساوية –مثل معظم العواصم الأوروبية– بوجود بعض الشَّوارع فى وسط المدينة تكون مغلقةً أمام السَّيارات، ومُخصصةً فقط للمشاة، ومن تلك الشَّوارع كان يستهوينى شارع «كارتنر» وسط مدينة «فيينا»، وكان المكان المُفضَّل لى ولزوجتى ولأصدقائنا لكى نتمشى فى عطلة نهاية الأسبوعإذا كان الطَّقس يسمح بذلك، وقلَّما كان يسمح! فالثلوج تُغطِّى الشَّارع عدة شهور فى السَّنة فضلاً عن البرد القارس الذى يضرب الأجساد، وكأنه صفعات ثلجية على وجوه لا ترى الشَّمس إلا نادرًا، وذات صباح كان الجو ملائمًا والشَّمس مُشرقةً على غير العادة، وبدأتُ أنا وقرينتى نتمشى فى شارعنا المُفضَّل، ونجلس على أحد المقاهى فيه نرقب المارَّة من كلِّ الجنسيات، والفرق الموسيقية الصَّغيرة تصدح ويلتف حولها الصِّغار والكبار بلا تمييز،
وإذا بى أرى السيد «سيفالإسلام القذافى» –الذى كان يدرس فى فيينا– يتجه نحونا ومعه سيدة يبدو عليها مظاهر الوقار والطِّيبة فى ذات الوقت، فصافحنى أنا وزوجتى وقدمنا للسيدة التى كانت معه؛ فإذا هى والدته قرينة القائد «معمر القذافى»، وقد كانوا ملء السمع والبصر فى ذلك الوقت، فدعوناهما للجلوس على المقهى، فجلسا بينما لمحتُ اثنين من الحراس يرقبان المشهد عن قرب، ثم بدأتُ أسأل «سيف الإسلام» عن (النمر) الذى يملكه، والذى أودعه «حديقة حيوان فيينا» طوال مدة دراسته فى «النمسا»، حيث يزوره فى عطلة الأسبوع فتحتفى به حديقة الحيوان، ويتجمع بعض الجمهور القادم إلى الحديقة فى ودٍّ ورهبة لأن اسم «القذافى» كان كفيلاً بذلك، وما أكثر ما كان يطلب «سيف الإسلام» لقائى من خلال سفير «ليبيا» فى «فيينا» السيد «عبدالعاطى»، وكان يستهويه كثيرًا أن أحدثه عن دولة «الهند» التى عملت فيها، ويمطرنى بأسئلة كثيرة حولها تنمُّ عن فضول فطرى فى المعرفة، ونهم إلى التَّعرُّف على التَّجارب السِّياسية فى العالم المعاصر، وقد علمنا -زوجتى وأنا– أن السيدة «صفية القذافى» جاءت إلى العاصمة النمساوية فى زيارة لابنها الذى يبدو أثيرًا لدى أبويه، وقد كان اللقاء وديًّا دعوتهما فيه إلى قهوة الصَّباح وودعناهما بكلِّ التَّحية والمَوَدَّة، وأتذكر الآن الأزمة التى جرت بين «ليبيا القذافى» والدولة النمساوية عندما تأخرت تأشيرة الإقامة لـ«سيف الإسلام» فأعلنت «ليبيا» فورًا تجميد استثماراتها لدى «النمسا»، وفرضت عقوبات على التَّعامل معها، وقيودًا على السَّفر إليها، وهنا أصاب الهلع الحكومة النمساوية، وقدَّمت اعتذارات كافية لـ«القذافى» وحكومته، حتى تردد أن وزير داخلية «النمسا» هو الذى قام بنفسه بتسليم وثيقة الإقامة للسيد «سيف الإسلام القذافى»؛ تأكيدًا للاعتذار من الجانب النمساوى، ورغبةً فى إزالة أسباب سوء الفهم الذى جرى، وإنقاذًا للاقتصاد النمساوى من قرارات مجهولة وتصرفاتمفاجئة قد تؤدى إلى مشكلات مُعقدة، ولقد حرص «سيف الإسلام القذافى» على التَّواصل معى بعد عودتى من موقعى سفيرًا لـ«مصر» فى «فيينا»، فالتقيته مرتين فى «القاهرة» على عشاء لدى أصدقاء مشتركين، وأتذكر أنه سألنى ذات مرَّة بشكل مباشر عن إمكانية نجاح فكرة توريث السيد «جمال مبارك» الحكم فى «مصر» بعد والده فأجبته إجابةً عامَّةً، إذ لم تكن لدينا معلومات تفصيلية، وقلتُ له: «إن الأمر مرهونٌ باحترام الدِّيمقراطية ووضع إرادة الشَّعب المصرى فوق كل اعتبار، وليس المهم فى هذه الحالة شخص مَنْ يأتى، ولكن الأهم هو الطريقة التى يأتى بها»، فأجابنى قائلاً: «إن الأمر لديهم مختلف؛ لأنه يلعب دورًا سياسيًّا يجعله قريبًا من الشَّارع الليبى، ويؤثر بشكل واضح فى محاولات التَّهدئة وحل المشكلات وتعزيز المصالحة بين الأطراف على المستويين المحلى والدُّوَلى»، وأشهد أنه كان شابًّا –كما كان يبدو لى على الأقل– مُتفتحًا وذكيًّا وبسيطًا، ولقد قابلنى القائد «القذافى» فى «القمة العربية الأفريقية» بـ«القاهرة» بعد عودتى من عملى فى «فيينا»، فقال لى: «إن سيف الإسلام دائم الحديث عنك والاعتزاز بعلاقته بك»، فشكرتُ القائد، وأرسلتُ بتحياتى إلى ابنه الأثير لديه، والذى كان يبدو وريثًا مُحتملاً له.
تلك هى بعض فصول علاقتى بواحدٍ من رموز الحياة السِّياسية للدولة الليبية التى تمزقها حاليًا التَّيارات السِّياسية المختلفة والاتجاهات الدِّينية المُتطرفة، بل ويضربها الإرهاب بين حينٍ وآخر، كان الله فى عون الشَّعب الليبى الشَّقيق فى محنته التى طالت!
مصطفى الفقي ;
مجلة 7 أيام العدد
تاريخ النشر: 9 نوفمبر 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d9%8a%d9%88%d9%85-%d8%a3%d9%86-%d9%82%d8%a7%d8%a8%d9%84%d8%aa-%d9%82%d8%b1%d9%8a%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b0%d8%a7%d9%81%d9%89-%d9%88%d8%a7%d8%a8%d9%86%d9%87%d8%a7-%d9%81%d9%89/