عرفتُها فى السنوات الأخيرة عندما دُعيت إلى الصالون الثقافى الذى تُقيمه بمنزلها على فترات مُنتظمة، والتقيتُ هناك رموزَ الفكر والأدب والثقافة: «زاهى حواس» فى الآثار، و«خيرى شلبى» فى أدب الرواية، و«أحمد رجب» رائد الصحافة الساخرة، و«أحمد الجمال» نموذج الانتماء السياسى والانحياز الشديد للناصرية، واللواء «محمد يوسف» جار الرَّاحلة فى ذات المنتجع وصديق الأسرة، وعشرات من الشخصيات التى ازددتُ قُربًا منها ومعرفةً بها، واكتشفتُ جزءًا من التاريخ اليسارى الناصرى للراحلة الفاضلة، وحيث تتألَّقالأم نجد أن أفراد أسرتها يتحلقون حولها، وفى مُقدِّمتهم الابنة المُحترمة «شروق» قرينة الإعلامى «إيهاب جوهر».
وكانت السيدة «شمس» تضرب السِّماط بالموائد الفاخرة والطعام الشَّهى، حيث يلتقى الجميع فى مودَّة ومحبَّة لا نكاد نجد لها نظيرًا فى عصرنا، وقد تواصلت بينى وبين هذه الأسرة صلات التقدير والاحترام، واكتشفتُ أننى عرفت «شمس الإتربى» متأخرًا، وأن اسمها إذا ذُكر فى أى تجمُّع من الأصدقاء فإن الجميع يعرفونها من قبل، ويحملون لها ذات التقدير والاحترام.
ولقد كانت هذه السيدة التى رحلت عن عالمنا منذ أيام تُجسِّد بحقٍّ مفهوم (صاحبة الصالون)، لأنها كانت تستمتع بصحبة المُفكِّرين والمُثقَّفين والعلماء والأدباء إيمانًا منها بأن الحوار وحده هو الكفيل بتنمية العقول وترشيد الأفكار والمُضى نحو مستقبل أفضل لهذا الوطن.
ورغم أنها كانت تسكن فى أطراف القاهرة فى «منتجع جرانة»، فإن الجميع كان يسعى إليها كما لو كانت تسكن فى ميدان التحرير، وهى تنتمى إلى عائلة عريقة وثرية، وكان من المتوقع ألا يكون انحيازها للعصر الناصرى واضحًا كما كانت، لكن لأنها سيدة مصرية وطنية، فإن انتماءها السياسى لم تُؤثِّر فيه أبدًا الطبقة التى جاءت منها، أو الأسرة التى انتمت إليها، وهؤلاء بحقٍّ هم من نستطيع أن نقول عنهم إنهم صادقون فى آرائهم، مخلصون لمعتقداتهم.
ومازلتُ أتذكَّر الحوارات الطويلة التى كانت تدور بينى وبين الروائى الراحل «خيرى شلبى»، الذى تتلو قامته قامة «نجيب محفوظ» مباشرةً، بالإضافة إلى مسحة «همايونية»، وتاريخ رائع من الصعلكة الفكرية والمُعاناة الإنسانية.
وأتذكَّر أن ذلك الرجل كتب عنِّى منذ أكثر من رُبع قرن دراسةً طويلةً فى مجلة «الإذاعة والتلفزيون» تحت عنوان «المفهرس» أعطانى فيها أكثر مما أستحق، وأكرمنى بقلمه السَّخى، وتحليله الموضوعى فى وقت لم أكن أتوقَّع فيه ذلك، ولكنه كان «خيرى شلبى»، الذى افتقدناه منذ سنوات قليلة، وكان واحدًا من أصدقاء الرَّاحلة الكريمة، ورُوَّاد صالونها العامر.
وقد كنتُ فى دولة «الإمارات العربية» أحضر المعرض السنوى للكتاب فى إمارة «الشارقة» وفى ضيافة أميرها العاشق لمصر والمُحبِّ لشعبها، وإذا النَّاعى يُبلِّغنا برحيل «شمس الإتربى»، ولم أكن قد رأيتها منذ مدة، فلم يكن لدىَّ علم بمرضها أو توقُّع برحيلها، فكانت المفاجأة قاسيةً، والمناسبة حزينةً، خصوصًا أمام الذين يذهبون ولا يعودون، فإننا لا نكاد نجد لهم بديلاً، ولا نعرف بعدهم مثيلاً.
وأنا أمضى هنا مع «ابن المُقفَّع» حين كتب عن «فضل الأقدمين»، وتباكى على الأخلاق ورثى الفضيلة التى تمضى مع مرور الزمن، وقد لا تتكرَّر مرَّةً ثانيةً، وتذكَّرتُ الشاعر الذى قال:
مررتُ على المروءة وهى تبكى
فقلتُ: علامَ تبكى الفتاة؟
فقالت: كيف لا أبكى وأهلى
جميعًا دون خلق الله ماتوا؟!
ولقد تحمَّلت الرَّاحلة هى وابنتها الفاضلة «شروق» -التى تُصدر مجلة محلية متميزة- فاجعةً كبيرةً منذ سنوات برحيل والد أحفاد «شمس» فى حادث مأساوى نتذكَّره دائمًا، ولكنَّ هذه الأسرة الصامدة تجاوزت الحادث الأليم، ومضت فى الطريق الصحيح كالعهد بها دائمًا.
ليتنا ننتهز هذه المناسبة ونُفكِّر فى ظاهرة الصالونات الثقافية التى بدأت تستعيد بعض أمجادها، وأنا شخصيًّا أرتاد بعض هذه الصالونات، وفى مقدمتها صالون «د. لوتس عبدالكريم»، وصالون «د. أحمد العزبى»، وصالون اللواء طبيب «عبدالمنعم عثمان»، فضلاً عن الصالون الثقافى رفيع الشأن للدكتور «وسيم السيسى»، وغيرها من الصالونات المُرتبطة بأصحابها، فضلاً عن الصالونات العامَّة كـ«الصالون الثقافى العربى» -الذى أشرف برئاسته بعد رحيل الفقيه القانونى «د. يحيى الجمل»- وصالون الأهرام، وصالون الأخبار، وغيرها من التجمُّعات الثقافية التى تألَّقت وازدهرت فى السنوات الأخيرة، وهى ظاهرة تُبشِّر بالخير وتبعث الأمل؛ لأنها تجديد لشباب صالون «مى زيادة»، وصالون «عباس العقاد»، وغيرهما من مشاهير الزمن الجميل.
إننا لن ننسى «شمس الإتربى»، وسنظل نُردِّد سيرتها العطرة، ونذكر لها كرمها الزائد، وخلقها الرفيع، وثقافتها الواسعة، رحمها الله بقدر حُبِّها لوطنها وما قدَّمته من فضل لكل من عرفها أو سعى إلى مجلسها الغنى بالأفكار، الثرى بالشخصيات، المُتألق بالعلماء، والأدباء، والمفكرين، وكبار المثقفين.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام
تاريخ النشر: 22 نوفمبر 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b5%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%86-%d8%b4%d9%85%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%aa%d8%b1%d8%a8%d9%89/