جاء إلى «مصر» زائرًا أميرُ البحرين الرَّاحل الشيخ «عيسى آل خليفة» ليحلَّ ضيفًا على الرئيس الأسبق «مبارك» بعد انتهاء القطيعة العربية لـ«مصر» على المستوى الدبلوماسى، وعودة الجامعة العربية إلى مقرِّها الطبيعى.
وفى مساء يوم وصول الضيف البحرينى الكبير، الذى كانت تربطه بـ«مصر» روابط طيِّبة امتدَّت من «إمارة البحرين» قديمًا إلى «مملكة البحرين» حاليًا -حتى إننا كنَّا عائدين من رحلة مع الرئيس الأسبق فى «جنوب آسيا»، وظهرت بوادر عاصفة يستحيل معها الطيران إلا بالهبوط فى إحدى دول الخليج القريبة، وكان الخيار جغرافيًّا بين «الدوحة» و«المنامة»، فاختار الوفد المصرى العاصمة البحرينية لما يشعرون فيها من أُلفة ومودَّة- ويومها، قال رئيس وزارء «قطر» ووزير خارجيتها «حمد بن جاسم» عندما سُئل عن هبوط طائرة الرئيس المصرى فى «البحرين»، وليس فى «قطر»، فأجاب فى عنجهية وصلافة: الحمد لله أن الرئيس المصرى لم يأتِ؛ فلقد وفَّر علينا نفقات الاستضافة!
أعود إلى أمير البحرين الذى وصل إلى «قصر القبة» حيث المراسم العسكرية لاستقبال الضيف الذى تعتز به مصر «رئيسًا وحكومة وشعبًا»، وبعد انتهاء مراسم الاستقبال ومع الساعات الأولى من المساء اتَّصل بى هاتفيًّا الدكتور «رفعت المحجوب» رئيس مجلس الشعب حينذاك، والذى كان يُعتبر رقم اثنين فى الدولة، وقد ربطتنى به صلات طويلة منذ أن التحقتُ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1962، فأبهرنى الرجل بعلمه الغزير، وثقافته الواسعة، ولُغته الرَّفيعة، فضلاً عن أناقة الملبس، واحترامه الشديد لذاته مع مسحة من الكبرياء كانت تُعطيه دائمًا هيبةً واحترامًا.
ولقد بادرنى الدكتور «المحجوب» فى مُكالمته قائلاً: أرجو أن تُبلغ الرئيس أنه ما هكذا تُدار الأمور! فلقد قذفنى قائد الحراسة الخاصة بالرئيس بعيدًا عن طابور المُصافحة للضيف البحرينى على نحو غير مسبوق، وأرجو إبلاغ الرئيس احتجاجى على هذه المُعاملة التى لا تُرضيه، وأدركتُ أننى لو أبلغتُ السيد الرئيس بفحوى الرسالة كما هى فقد يعصف بالعقيد «رضا سالم» قائد الحراسة الخاصة برئيس الجمهورية حينذاك، وآثرتُ الاتِّصال بزميلى «رضا سالم» الذى حضر إلى مكتبى وشرحتُ له ما حدث وأننى أرجأتُ إبلاغ الرئيس حتى أستمع إلى وجهة نظره، فقال لى: إن «د. رفعت المحجوب» قد تقدَّم للمُصافحة فداست قدمُه على أطراف الثوب الذى يرتديه أمير البحرين على نحو قد يُؤدِّى إلى سقوط الضيف على وجهه لو حاول التحرُّك فى أى اتِّجاه، فكان لزامًا علىَّ أن أجذب المسئول المصرى الكبير -بغضِّ النظر عن مكانته- بعيدًا عن رداء الأمير حرصًا على سلامته، وحفاظًا على المظهر العام لمراسم الاستقبال التى تنقلها شاشات التلفزيون مباشرةً.
وعندئذٍ لاحت لى فكرة مراجعة الدكتور «رفعت المحجوب» فيما قال لى على ضوء التفسير الذى قدَّمه قائد الحراسة الخاصة، وشرحتُ لأستاذى رئيس مجلس الشعب أن حماية الرئيس -أى رئيس- تقتضى اتِّخاذ بعض التصرُّفات التى قد لا تكون مقبولة، ولكنها مُبرَّرة، وأضفتُ أن قدم «د. المحجوب» قد داست على طرف ثوب «الشيخ عيسى» أمير البحرين؛ لذلك كان طبيعيًّا أن يتدخَّل قائد الحراسة لحماية الضيف الكبير من احتمال السقوط على سجادة الاستقبال دون مُقدِّمات.
ولقد فاجأنى «د. المحجوب» بقبوله السريع لهذا التفسير؛ بل واعتذاره عن شكواه وسحبها نهائيًّا، مُتمنيًا للرئيس وحراسته الخاصة وقائدها السداد والتوفيق، وبذلك تخلَّصتُ منمشكلة كانت مُتوقَّعة، ورضى الدكتور «المحجوب».
وقد طمأنتُ العقيد «رضا سالم» الذى يعلم أن الرئيس الأسبق «مبارك» لا يحب استخدام التصرُّفات الحادَّة فى غمار مسألة الأمن الشخصى له، ولقد ظل زميلى قائد الحراسة «رضا سالم» يتندَّر بهذه القصة كلما التقينا، ويرى أن ما فعلناه كان حلاً مثاليًّا، حتى إن الأمر برُمَّته لم يصل إلى مسامع الرئيس، وإلا لكان له قول آخر.
والطريف أن نوادر البروتوكول كثيرة، وهي شديدة الحساسية بطبيعتها، وقد يكون ثمن الخطأ الواحد فادحًا؛ لذلك فإنه يجرى التدقيق دائمًا فيمن يتولون المناصب القيادية فى مؤسسة الرئاسة أو وزارة الخارجية حتى تظل لدينا مدرسة واعية فيما نُطلق عليه «المراسم»، والتى تُعتبر أحد مظاهر التميُّز الذى نُحافظ عليه دائمًا.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام
تاريخ النشر: 30 نوفمبر 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b1%d9%81%d8%b9%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ad%d8%ac%d9%88%d8%a8-%d9%88%d8%a3%d9%85%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%ad%d8%b1%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a7%d8%ad%d9%84/