لم أَرَ فى حياتى بلدًا اندهشتُ فيه مثلما حدث أثناء زيارتنا بصُحبة الرئيس الأسبق «مبارك» لـ«كوريا الشمالية»، وإقامتنا عدَّة أيامٍ فى عاصمتها «بيونج يانج»، وكان ذلك فى ظلِّ الرئيس المُلقَّب بالزعيم العظيم القائد الأعلى، الذى هو نور الزمان، وفخر المكان، وتاج البشرية «كيم إل سونج»، والذى يحكم حاليًا حفيده تلك البلاد التى تضم شعبًا تُحيط به ظروف صعبة، وتحكمه تقاليد مُعقَّدة.
ومنذ انقسام «دولة كوريا» بعد «الحرب العالمية» ونحن أمام كوريتين تختلفان اختلافًا جذريًّا من حيث الحياة السياسية، وسُلطة الحكم، ودرجة الانفتاح على العالم؛ فقد أصبحت «كوريا الشمالية» جزءًا من المنظومة الشيوعية، وظلَّت فى حماية الصين الشعبية والاتحاد السوفيتى طوال سنوات الحرب الباردة، كما ظلَّت دولةً مُغلقة تمامًا عصيَّةً على الفهم، صعبةَ التعامل.
وفى أثناء زيارتنا رأينا الملايين على جانبى الطريق من المطار إلى قصر الضيافة، وعلى وجوههم جميعًا ابتسامة واحدة تعكس وراءها خوفًا دفينًا ومُعاناةً شديدةً، ولقد عرفنا أن المواطن الكورى الشمالى لا يتزوَّج إلا ببنات الشارع الذى يسكنه، وإذا وُجد مُواطنٌ واحدٌ فى منزله فى ساعات العمل، فإنه يتعرَّض لعقوبة ضارية ينأى بنفسه عنها.
ولقد شاهدتُ فى العاصمة «الكورية الشمالية» استادًا رياضيًّا لم أَرَ حجمه من قبل من حيث الضخامة والفخامة، فضلاً عن الصناعات الحربية المُتقدِّمة، حتى أصبحت «كوريا الشمالية» كما هو معروف دولةً نوويةً تملك عددًا من الصواريخ المُدمِّرة، والتى يصل مداها إلى الشواطئ الأمريكية، وإلى حدود «اليابان»، وهو ما يُسبِّب قلقًا عميقًا لكل الأطراف فى السنوات الأخيرة، خصوصًا فى ظلِّ الحاكم الحالى «كيم جونج أون»، والمعروف بجبروته، ورعونته، وأحكامه القاسية؛ فهو الذى أعدم زوج عمَّته بلا مُحاكمة لمُجرَّد وجود هاجس لديه أو وهم حول ولائه، كما أعدم ضابطًا كبيرًا آخرَ بطلقة مدفع؛ لأنه غفا قليلاً أثناء الاجتماع، وفى كل الأحوال يرمى الجُثث للكلاب الضالَّة.
وأتذكَّر أثناء زيارتنا فى ثمانينات القرن الماضى أننى وجدتُ عددًا كبيرًا من المُترجمين والمُترجمات، الذين يُجيدون اللغة العربية، ولقد سألتُ المُترجمة المُرافقة بعض الأسئلة السياسية حول الحريات العامة فى بلادها، فوجدتها قد اختفت من أمامى تمامًا وكأنما ذابت فى بحر مُتلاطم الأمواج؛ لأنها خشيت على نفسها من مُجرَّد الاتِّهام بسماع السؤال، فضلاً عن الإجابة عنه، ولكنَّ أغرب المشاهد التى لا أنساها هى أنه فى اليوم المُقرَّر لتشرُّفنا بمُصافحة الزعيم الأوحد «كيم إل سونج» دخل على الوفد المصرى فى بيت الضيافة فريقٌ من الأطبَّاء والمُمرِّضين، وكانت مُهمَّتُهم هى تطعيمنا للتأكُّد من سلامتنا من الأمراض المُعدية قبل أن نحظى بالشَّرف الرفيع ومُصافحة الزعيم العظيم.
لا أتصوَّر حاليًا أن تكون هناك طقوس لتأليه الحاكم مثل تلك التى تجرى فى «كوريا الشمالية»، والذى أصبحت طريقة حلاقته شَعْرَهُ موضة عالمية فى الأعوام الأخيرة
وأتذكَّر أننى كنتُ أضع فى قدمى «قبقاب» خشبيًّا مرتفعًا بمواصفات كورية -وهو البديل الذى يرتديه أىُّ شخص أثناء وجوده فى الغُرفة أو دخوله الحمَّام- ثم بدأ الغزو الطبِّى، ولمَّا استفسرنا منهم عن السبب، قيل لنا إن هذه حقنة مُطهِّرة لأصحاب الأيدى التى سوف تتشرَّف صباح الغد بمُصافحة السيد «كيم إل سونج» أثناء استقباله الرسمى للرئيس المصرى والوفد المرافق له.
ولا أظنُّ أننى رأيتُ شيئًا مثل ذلك حتى فى عمليات التفتيش التى كانت تسبق لقاءاتنا بالرئيس الراحل «صدام حسين»، خصوصًا فى سنوات حُكمه الأخيرة، ففى مواجهة هؤلاء الحُكَّام لا يتم ترك شىءٍ للصُّدفة؛ بل إن كل التفاصيل تخضع لرقابة شديدة وجُهد كبير لتحاشى أىِّ احتمال، ولو كان واحدًا فى المائة لأىِّ مُحاولة ضد حياة هؤلاء الذين يحكمون بدكتاتورية مُطلقة شعوبًا تبدو أحيانًا مغلوبةً على أمرها، مقهورةً فوق أرضها.
وكان من أغرب ما شاهدتُ أيضًا فى تلك البلاد القُدرة على حشد الجماهير بمئات الآلاف فى وقت قصير؛ لأن كلَّ شىءٍ يخضع لنظام صارم وتسلسل دقيق، والمواطن هناك يُقدِّس الزعيم ويرى فيه ظلاً للإله يكاد يعبده.
وأنا لا أتصوَّر حاليًا أن تكون هناك طقوس لتأليه الحاكم مثل تلك التى تجرى فى «كوريا الشمالية»، والذى أصبحت طريقة حلاقته شَعْرَهُ موضة عالمية فى الأعوام الأخيرة، ولو تأمَّلنا تصريحاته وكيفية وقوف القادة العسكريين باحترام ورهبة وراءه لأدركنا مأساة الإنسان المُعاصر فى تلك البلاد المُتقدِّمة تقنيًّا، خصوصًا فى مجال الصناعات العسكرية التى تفوَّقت فيها «كوريا الشمالية»، والتى أمدَّتنا بقطع غيار الطائرات الروسية أثناء حرب أكتوبر عام 1973، وهو أمر تذكره «مصر» لتلك الدولة البعيدة.. ما أكثر ما يُوجد فى عالمنا من غرائب، وعجائب، وأساليب حياة، وسياسات حُكم.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام
تاريخ النشر: 13 ديسمبر 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%ad%d9%82%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b7%d9%87%d9%8a%d8%b1-%d9%81%d9%89-%d9%83%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%85%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a9/