تردد اصطلاح صفقة القرن منذ وصول الرئيس الأمريكى ترامب إلى السلطة فى البيت الأبيض وبدا زوج ابنته وكأنه العراب الذى يمثل همزة الوصل بين إسرائيل والإدارة الأمريكية وإن كان الأمر تاريخيًا لا يحتاج إلى همزة وصل، فالنغمة واحدة والرؤية مشتركة حتى أننى أكاد أجزم بأن السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط تحفها دائمًا اللمسات الإسرائيلية، ولقد جربنا ذلك فى مواقف كثيرة فأنا أتذكر أن الإبقاء على صدام حسين بعد تحرير الكويت كان طرحًا إسرائيليًا لمزيد من الضغط على دول الخليج واستمرار فزاعة تؤرق أمنها، نعود الآن إلى قصة صفقة القرن لكى نقول إنها ليست جديدة بالمفهوم الكامل بل إن مجمل الأفكار الواردة فيها قد تناثرت فى مراحل مختلفة من تطور الصراع العربى الإسرائيلى وفى إطار المشكلة الفلسطينية لهذا فإن الجديد فى صفقة القرن هو محاولة وضعها فى إطار شامل ضمن رؤية إسرائيلية أمريكية تباركها الدوائر الغربية لإجهاض القضية الفلسطينية والانتقال بها إلى مرحلة جديدة كان من بوادرها عدة مؤشرات فى مقدمتها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ثم إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن مع تزامن بالتضييق على وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) فى محاولة لتركيع الفلسطينيين وإشعارهم بأن ما هو قادم أسوأ فليكن الأفضل لهم أن يختاروا ما هو مطروح عليهم لأنهم لن يتمكنوا من تحقيق أهدافهم القومية، فيجب أن يقنعوا بالترتيبات الإقليمية الجديدة، كما تناثرت تصريحات أمريكية تبرر بقوة سياسة الاستيطان الإسرائيلية وتضعنا لأول مرة أمام واقع مكشوف لا يحاول أن يستتر بحل الدولتين - مثلًا - أو قيام دولة فلسطينية مستقلة إذ إن قصارى الممكن - من وجهة نظرهم الخبيثة - هو قيام كونفدرالية مع الأردن على أن تتحمل مصر تبعة إقليم غزة فى ظل ترتيبات أمنية تجرى فيها مقايضة بعض الأراضى مع مصر والأردن بل وربما مع السعودية أيضًا، فآمالهم واسعة وأطماعهم بغير حدود، وعلى الرغم من أن صفقة القرن لم تقدم رسميًا للدول المعنية إلا فى مقابلات دبلوماسية وأحاديث سياسية عامة لكن جزءًا كبيرًا من التصورات التى تحتويها أصبح متداولًا فى الشارع السياسى العربى فرفضتها مصر والأردن والسعودية ولا أظن أن دولة عربية مهما يستبد بها الشطط وتغرد خارج السرب يمكن أن تقبل بهذا الطرح العنصرى التوسعى العدوانى الذى يسعى لحل القضية الفلسطينية على حساب أراض عربية جديدة بحيث تكون إسرائيل هى الظافر الأوحد خصوصًا أنها قد انتقلت فى العقدين الأخيرين من مرحلة الرغبة فى القبول الطوعى بين الدول العربية إلى مرحلة القدرة على فرض القبول القسرى على تلك الدول وأصبح تعبير الدولة اليهودية مرادفًا لإسقاط حق العودة ومنهيًا تمامًا لمبدأ الدولتين، وقد يقول قائل: ولماذا لا نقبل بدولة ديمقراطية واحدة كما طرحها الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين غداة هزيمة يونيو عام 1967؟ ولكن المنطق الإسرائيلى يرى غير ذلك فالدولة اليهودية تفتح أبوابها لليهود فقط أما الفلسطينيون فعليهم أن يبحثوا عن ملاذ فى مناطق فلسطينية سواء فى الضفة أو غزة، إن ما جرى يمثل نقلة نوعية كارثية بالنسبة لما تم تداوله مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من قبل فنحن أمام فصل جديد فى سفر الصراع العربى الإسرائيلى حيث سقطت ورقة التوت وأصبحت الأمور عارية تمامًا فأين يقف العرب؟ وماذا يفعل الفلسطينيون؟ دعونا نتأمل الملاحظات الآتية:
أولًا: إن الصراع الطويل الذى امتد لأكثر من ثمانية عقود لا يمكن تفريغه من مضمونه لدى الطرفين فى عام أو بعض عام فالمسألة أعقد من ذلك وأصعب، وحتى إذا كان هناك استثمار إسرائيلى أمريكى للوضع العربى المتردى نتيجة الزلزال الكبير الذى أحدثته ثورات الربيع العربى فإن ذلك لا يمنع من وجود إرادة عربية شعبية كامنة قد تصيبها صدمة ما هو قادم وتدفعها لحالة إفاقة مطلوبة مهما يَطُلْ الانتظار.
ثانيًا: إن الشعب الفلسطينى الذى دفع عبر العقود الماضية أغلى فاتورة عمدها بدماء أطفاله ونسائه وشيوخه قبل رجاله وشبابه إنه فى ظنى شعب أسطورى بكل المقاييس العصرية، ومثل هذا الشعب لا يموت ولا يخمد صوته ولا تتجمد إرادته وإسرائيل تدرك ذلك ولكنها تتوهم أن منطق القوة والقهر وهدم المنازل وترويع الآمنين سوف يحقق لها نصرًا نهائيًا، وهذا تفكير مغلوط وتصور عبثي، فالشعوب لا تموت كما أن الأمم لا تغيب.
ثالثًا: إذا كانت الإدارة الأمريكية الحالية تستغل ظروف المنطقة خصوصًا الوضع فى سوريا والتركيبة المعقدة للعلاقات المتشابكة فى هذا السياق بين إيران وروسيا وتركيا إلى جانب الموقف الأمريكى الذى يبدو كرد فعل أكثر منه موقفًا فاعلًا، كل هذه التركيبة لا تعنى أن بمقدور إدارة ترامب وحكومة إسرائيل وحلفائهما فى الغرب والشرق أن يحققوا مثل هذا الهدف غير المتوازن شكلًا وموضوعًا والذى يمثل استفزازًا كاملًا للشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة فضلًا عن الرأى العام العالمى الذى يدرك جيدًا معاناة الفلسطينيين ويتعاطف فى أعماقه مع قضيتهم العادلة.
إن صفقة القرن مهما يجرى الترويج لها والدعاية حولها وتركيبها فى إطار يتصل بالاستقرار الإقليمى والسلام العالمى والرواج الاقتصادى إلا أنها لن تكون أبدًا رحلة سهلة ولا قفزة هينة بل هى صفحة جديدة من سياسة الانحياز الأعمى لإسرائيل على حساب الفلسطينيين والعرب بل وكل دعاة الحق والعدل فى عالمنا المعاصر.
جريدة الاهرام
2 اكتوبر 2018
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/673435.aspx