تُمثِّل سنوات وجودى فى البرلمان المصرى فترةً مُرهقةً فى مُجْمل حياتى العمليَّة، فقد دخلتُ المجلس فى السَّنوات الخمس الأولى بالتَّعيين، ثم تبعتها سنوات خمس أخرى بالانتخاب، بعد معركةٍ سمَّيتُها «أم المعارك» فى دائرة «دمنهور» عاصمة المحافظة التى أنتمى إليها، حيث كان مُنافسى قطبًا إخوانيًّا عتيدًا، وأثارتْ تلك المعركة لَغَطًا شديدًا حتى أصدرتْ محكمة النَّقض رأيها بسلامة العمليَّة الانتخابيَّة، وقد أبدتْ المحكمة الرَّأى ذاته مرَّتين؛ الأولى فى عهد الرَّئيس الأسبق «مبارك»، والثَّانية فى عهد الرَّئيس الأسبق «محمد مرسى».
والذى يهمنى هنا أن تجربة الحياة النِّيابيَّة فى مصر تجربةٌ مُعقَّدةٌ؛ لأن شَعْبنا يعتبر النَّائب (مندوب طلبات)، أمَّا الوظيفة التَّشريعيَّة والرِّقابية فلا يلتفت إليها المواطن العادى، ولكنه يريد فقط قضاء مصالحه الشَّخصيَّة هو وأسرته إلى جانب بعض الخدمات العامَّة والاستثناءات دون الغَوْص فى تفاصيل الحياة السِّياسيَّة وكواليس العمل العام، والنَّادرة التى أرويها اليوم ترتبط بنائبٍ من صعيد مصر أحملُ له مَحَبَّةً وإعزازًا، حيث كانت وظيفته الأساسيَّة قبل دخول البرلمان أنه مسئول عن (الثَّقافة الجماهيريَّة) فى قطاع الصَّعيد، وذات يوم اِنْبَرَى صاحبنا مُتحدثًا أمام المجلس فى موضوع مُعيَّن، ثُمَّ استشهد فجأةً بشاعرة العرب «الخَنْسَاء» قائلاً: لقد قالت «الخَنْسَاء» تَرْثى أخاها حَجَرًا، ثم استطرد فيما يقول، فقلتُ له بصوتٍ لا يسمعه غيره، فقد كان يجلس قريبًا منى، «لقد كانت تَرْثى أخاها صَخْرًا وليس حَجَرًا»، فردَّ علىَّ أمام المجلس كله بصوتٍ مُرتفعٍ: «صَخْر أو حَجَر كله طوب!»، فضجَّ الكثيرون بالضَّحك لهذا الرَّد السَّريع الذى يُعبِّر عن القُدرة على تجاوز المواقف الصَّعبة فى الأحاديث المُختلفة.
وأنا أسوقُ هذه النَّادرة لأننى أدركُ أن لها أيضًا قصصًا مُماثلة عن نوادر شهدتها فى حياتى البرلمانيَّة؛ فقد جاءنى النَّائب المُناضل «أبوالعز الحريرى»، رحمه الله، وقال لى: «إننى أريدُ أن أهاجم بيان حكومة د.عاطف عبيد بقسوة؛ لأننى غير موافق على توجُّهات تلك الحكومة، فبماذا تنصحنى؟»، فقلتُ له: «لكى يمرُّ حديثك يجب أن تجعل لرئيس الجمهورية مقامًا بعيدًا، بحيث لا يبدو النَّقد مُوجَّهًا له، ولكنَّه قاصرٌ فقط على الحكومة ورئيسها»، فقال لى: «سوف أفعل ذلك بل وأزيد عليه بأن أوجِّه التَّحيَّة لقرينة الرَّئيس أيضًا وليس الرَّئيس وحده»، وبالفعل طلب الكلمة فى جلسة التَّعليق على مشروع الموازنة، ثم اِنْبَرَى مُهاجمًا حكومة الرَّاحل د.عاطف عبيد، معتبرًا أنها من أسوأ الحكومات المعاصرة من وجهة نظره، وقال: «إن رئيسها كان وزيرًا لوزارة قطاع الأعمال، ولم يكن ناجحًا على الإطلاق حتى أصبح رئيسًا للوزراء فتكتمل دائرة الفشل»، فدقَّ د.فتحى سرور مُنبِّهًا العضو بأنه غير مسموح بالتَّجاوز فى انتقاد المسئولين، فكان ردُّ أبوالعز الحريرى: «إنَّ ما أقوله هو صفقةٌ متكاملةٌ فيها تحيَّة للسيد رئيس الجمهورية والسيدة قرينته، أمَّا نقدنا لرئيس الوزراء فهو جَوْهَر المسألة ولا تراجع عنه»، ثم وجدته ينظر نَحْوى وكأنما يقول إنَّ تلك مشورتى، ويدعونى لإبداء رأى داعم لما يقول، ولم يكن ذلك مُمكنًا بسبب الحساسية الزَّائدة لدى المسئولين تجاه النَّقد، حتى ولو كان محدودًا ورقيقًا، كما مازلتُ أتذكر المواجهات الحادَّة بين بعض المسئولين فى الحكومة فى جانب، وممثلى الشَّعب من النُّواب فى جانبٍ آخر، ولقد لاحظتُ أنه على الرَّغم من أن مصر بلد يتمتع بوجود رأى عام قوى تجاه القضايا المختلفة فإن ذلك التَّميُّز لا يرتبط على الجانب الآخر بتنامى الحياة الدِّيمقراطية وازدهارها، وتلك معادلة صعبة فى التَّركيبة المصريَّة لا نكاد نجد لها مثيلاً، ومازلتُ أتذكَّر أن بعض نواب الشَّعب كانوا لا يحضرون الجلسات إطلاقًا وإذا جاءوا إلى المجلس فإنهم كالزَّائرين الذين يجلسون فى (البَهْو الفرعونى) يحتسون القهوة والشَّاى مُتصورين أن تلك هى مهمة النَّائب البرلمانى، على اعتبار أنها نوعٌ من الوجاهة الاجتماعيَّة والتَّميُّز بين أبناء دائرته.
ويضمُّ مبنى البرلمان متحفًا تاريخيًّا رائعًا، يوجد فيه المركبة الملكيَّة التى كان يأتى بها الملك فؤاد سنويًّا إلى البرلمان؛ لحضور خطاب العرش، إلى جانب صور لكل رؤساء البرلمان منذ منتصف القرن التاسع عشر، فضلاً عن مُقتنيات ثمينة وردت إلى المجلس كإهداءات من برلمانات شقيقة وصديقة.
مصطفى الفقي ;
مجلة 7 أيام العدد
تاريخ النشر: 28 ديسمبر 2017
رابط المقالة:
https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%8e%d9%86%d9%92%d8%b3%d9%8e%d8%a7%d8%a1-%d9%81%d9%89-%d9%85%d8%ac%d9%84%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%91%d9%8e%d8%b9%d9%92%d8%a8/