أثار رحيل الكاتب الصحفى الكبير «إبراهيم نافع» جُزءًا من مخزون الذكريات لدىَّ، وأختارُ منها ما جرى منذ ما يقرب من خمسة عشر عامًا، ففى عام 2004 وجَّه «الكنيست الإسرائيلى» دعوةً للأستاذ الدكتور «أحمد فتحى سرور» رئيس مجلس الشعب لحضور جلسة فى البرلمان الإسرائيلى بحضور رئيس الوزراء حينذاك «إيريل شارون»، وذلك احتفالاً بمُضىِّ ربع قرن على اتِّفاقية السلام (المصرية–الإسرائيلية) التى جرى توقيعها فى 26 مارس 1976.
وعندما علم الرئيس الأسبق «مبارك» بالدعوة رأى الاكتفاء بإيفادى؛ باعتبارى رئيسًا للجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشعب المصرى، وأبلغنى الدكتور «سرور» بذلك، ووافقتُ من حيث المبدأ؛ احترامًا لمسئوليتى فى موقعى، ولكننى طلبتُ أن يُتاح لى أن أُلقى كلمةً فى ذلك الاحتفال أمام أعضاء «الكنيست»، مُنتويًا فيها التركيز على ثوابت الحقوق الفلسطينية التى لا يملك أحد العبث بها.
وعندما جرى الاتِّصال بالجانب الإسرائيلى وإبلاغهم بمطلبى كان ردُّهم بأنه لن يُتاح له أن يتحدَّث أمام المجلس، ويستطيع أن يتحدَّث فقط للصحافة بعد انتهاء الجلسة، فاتَّخذتُ ذلك ذريعةً للاعتذار عن هذه المهمة الثقيلة، وسافرتُ وقتها إلى «جنيف» لعلاج مفصل الرُّكبة.
واعتبر الرئيس «مبارك» ذلك تهرُّبًا من المهمة، واستشاط غضبًا، ولكننى لم أتمكَّن من التراجع عن موقفى الرَّافض لمنعى من الحديث أمام أعضاء «الكنيست»، وإزاء ذلك الموقف جرى عرض المهمة على الراحل «أ.د. عبد الأحد جمال الدين»، الذى كان زعيمًا للأغلبية فى مجلس الشعب، فوافق على ذلك، ولكن جاءت التَّصرُّفات الإسرائيلية العدوانية قبل المناسبة بأيام قليلة، فاغتالت السُّلطات هناك الشيخ «أحمد ياسين»، ثم تلته بعد ذلك باغتيال خليفته «عبدالعزيز الرنتيسى»، فجرى نسف المهمة من أساسها، وقرَّر الرئيس الأسبق عدم المُشاركة فى المناسبة نتيجة للتَّصرُّفات الإسرائيلية الحمقاء، ولكنَّ غضبه علىَّ ظلَّ قائمًا لعدَّة أشهر؛ لأننى عصيتُ التعليمات من بدايتها؛ إذ إننى لم أشأ أن أحرق اسمى دون أن يكون لذلك تأثير إيجابى فى تسجيل موقف بلادى من الحقوق الفلسطينية فى كلمة باسم مجلس الشعب المصرى أمام «الكنيست» مُذكِّرًا أعضاءه بأن السلام الشامل والعادل كلٌّ لا يتجزَّأ، وأن ذكرى اتِّفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية يجب أن تكون حافزًا لذلك.
وقد أرسلتُ فى ذلك الأسبوع مقالى المُعتاد لصحيفة «الأهرام»، ولكن عندما تصفَّحتُ العدد الذى تُنشر فيه مقالتى لم أجدها، وباتِّصالاتٍ سريعةٍ مع بعض الأصدقاء فى الصحيفة أدركتُ أن تعليماتٍ قد صدرت بمنع نشر مقالات لى فى الصحافة الحكومية، وامتدَّ المنع أيضًا إلى الظهور على شاشات التلفزيون، وقد تحمَّلت ذلك لمدة تزيد على ستة أشهر، وكنت راضيًا بما جرى؛ لأن ذلك ثمنٌ لقرارى المستقل.
وأعترف أن الأستاذ «إبراهيم نافع» -رحمه الله- كان يسعى لإعادتى للكتابة إلى أن اتَّصل بى الرئيس ذاته صباح أحد الأيام وقال لى: إن الذى ضايقنى منك هو خوفك من الحملة الإعلامية عليك التى كان يقودها الكاتبان الصحفيان «عادل حمودة» و«مصطفى بكرى».
وبعد ذلك بسنواتٍ قليلةٍ جرى منعى مرَّةً أخرى من الكتابة فى «الأهرام» تحديدًا؛ باعتبارها الصحيفة شبه الرسمية للدولة، وكان السبب أننى نشرتُ مقالاً فى صحيفة «المصرى اليوم» أُبرز فيه إعجابى الشديد بموهبة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» وتاريخه الحافل فى مناسبة عيد ميلاده، وقد ظلَّ المنع عدَّة أشهر حاول فيها رئيس التحرير الصديق «أ. أسامة سرايا» إعادتى للكتابة حتى نجح «سرايا» فى ذلك من خلال حوار له مع الرئيس الأسبق «مبارك» حول هذا الأمر مُنتصرًا لحرية الصحافة التى يُؤمن بها.
ولقد تعلَّمتُ من التجربتين معًا أن حرية التعبير أغلى ما يملك الإنسان، وأن الحجر عليها أمرٌ صعبٌ يُصيبُ صاحبه بالإحباط والحزن، بل هو يقترب أحيانًا من قرار المنع من السفر أو الحرمان من الحقوق السياسية.
ولقد كانت فترة منعى من الكتابة أو الظهور على شاشة التلفزيون قاسيةً، رغم أنها لم تمتد إلا لبضعة أشهر، وأنا أتذكَّر ذلك حاليًا بالعرفان للكاتب الراحل «إبراهيم نافع» الذى كان يسعى دائمًا فى الخير ويُحافظ على كرامة من يكتبون، بل ومشاعرهم أيضًا، بهدوئه المُعتاد، كما أتذكَّر للأستاذ «أسامة سرايا» جهوده فى الدفاع أيضًا عن حرية الرأى ومُحاولة التوسُّط لرفع قرار المنع عمَّن يُصيبهم ذلك، وسوف تظلُّ «الأهرام» قلعةً شامخةً للحريات يمتد تاريخها لما يقرب من قرن ونصف القرن من الزمان.
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد
تاريخ النشر: 18 يناير 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%ac%d8%b1%d9%89-%d9%85%d9%86%d8%b9%d9%89-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8%d8%a9-%d9%81%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%87%d8%b1%d8%a7%d9%85/