لو فكر علاء مبارك فى نشر مذكراته فإنها لن تزيد عن سطور قليلة يكتب فيها:
كان أبى سر نعمتى ومبرر ثروتى وسبب شهرتى ولكنه كان أيضا مصدر عارى الذى التصق بى فى المحاكم والسجون.
لا أتصور أنه قرأ كتابا أو راجع بحثا أو نفذ مشروعا أو تكلم فى شأن مهم إلا كرة القدم.
لم نعرف له وظيفة ما.
وعندما وصف بأنه رجل أعمال لم نعرف ما هى أعماله؟.
وأغلب الظن أن أمواله وممتلكاته التى تقدر بالمليارات لا يعرف عنها الكثير فهو فى الغالب لم يتعب فى الحصول عليها.
وطوال ستين سنة مضت فى حياته لم نسمع له صوتا ولم نقرأ له حرفا ولكن فى الشهور الأخيرة تفتحت شهيته لتعليقات جارحة ساذجة غير مبتكرة بدت نوعا من الانتقام.
بعد ساعات من الإعلان عن مذكرات الدكتور مصطفى الفقى أطلق علاء مبارك عليه أوصافا تنسب إليه مرونة التلون واللعب على الحبال وكأنه رجل كاوتش.
شهادة سوداء من شاهد لم يقرأ المذكرات تعود أن يصدر أحكاما متهورة مستندًا على أنه ابن الرئيس يفعل ما يشاء دون حساب أو عقاب ولكنه نسى أن الرئيس الذى كان يوفر له الحماية والحصانة أصبح فى ذمة الله ولولا كرم من يسبهم لعاد إلى السجن.
إن الثروة المعرفية والتجارب الحياتية والثقافة السياسية والحضارية التى يتمتع بها مصطفى الفقى لا يملك علاء مبارك منها ذرة أو شمة أو نطفة ولكنه معذور فقد كان نظام والده يحتقر المثقفين ولا يستريح إلا مع المهرجين والنمامين.
ولو جرب علاء مبارك أن يقرأ المذكرات.. سيجد فيها كثيراً من الإنصاف لوالده.. وربما فهم ولو متأخرا كيف يصبح الإنسان العادى نجما دون أن يعتمد سوى على نفسه؟.
إن الفقى خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وعضو التنظيمات السياسية الناصرية المعلنة والخفية والموجه فى معسكرات شباب منظمة الشباب والدبلوماسى المجتهد فى سفارات لندن ونيودلهى وفيينا والحاصل على الدكتوراه فى قضية تمس الوحدة الوطنية والكاتب المنتظم فى أكثر من جريدة، له العديد من الكتب وسكرتير الرئيس مبارك للمعلومات ورئيس الجامعة البريطانية ورئيس جامعة الإسكندرية والمشارك الدائم فى المؤتمرات الدولية وضيف الحوارات الجذابة على الفضائيات المحلية والعربية والراوى البارع الذى ينصت إليه فى شغف النجوم والمشاهير.
شخصية تمتلك كل هذه الخبرات تستحق أن تكتب مذكراتها بل تزيد تلك المذكرات الرواية رحلة الزمان والمكان عن خمسمائة صفحة فى مجلد يليق باسم ناشره محمد رشاد.
والحقيقة: إننى لم أستمتع بالمذكرات فقط وإنما راجعت وقائعها فى ذاكرتى أيضا فما قرأته سبق أن سمعته من الفقى نفسه على مدى ثلاثين عاما فى مناسبات اجتماعية وسياسية وشخصية متنوعة وأشهد أننى لم أجد اختلافا يذكر وإن كانت متعة سماعه أكبر من متعة قراءته.
كنت مسئولا عن تحرير «روز اليوسف» فى الوقت الذى كان الفقى فيه سكرتير الرئيس للمعلومات وبحكم اختلاف الرؤية بين الصحافة والرئاسة كان بيننا كثيرا من الشد والجذب.
حققت حادث سقوط الفريق الليثى ناصف من شرفة شقته فى الطابق الحادى عشر من بناية ستيورت تاور فى غرب لندن صيف 1973 استنادا على شهادة زوجته السيدة شفيقة وابنته المهندسة، وفهم منها أن السقوط حدث بفعل فاعل.
الليثى ناصف هو قائد الحرس الجمهورى الذى نفذ أمر السادات وقبض على رموز الحكم فى 15 مايو 1971 ولكنه لم يبق فى منصبه طويلا وعندما سافر إلى لندن للعلاج جرى له ما جرى.
لم يسترح مبارك لم نشرت لكنه لم يمنعه وإنما طلب من الفقى أن يكتب شهادته عن الواقعة التى تابع تحقيقاتها بصفته الدبلوماسية وبدا واضحا أن التشخيص الطبى حسم الجدل الجنائى.
كان الليثى ناصف يعانى من ضمور فى المخ يؤثر على توازنه عندما يقف والمرجح أنه سقط من الشرفة فاقد الحياة ولكن الفقى فى المذكرات يعتبر غلق القضية صفحة غامضة طويت فى البناية التى سقطت منها سعاد حسنى فيما بعد.
فى 8 أكتوبر 1992 استبعد الفقى من الرئاسة بحجة أن صوته ظهر فى محادثة تليفونية مع لوسى أرتين.
كنت أول من فجر قضية لوسى أرتين على صفحات «روزاليوسف» متصورا أنها ممتدة الجسور مع المشير أبو غزالة ولكن ثبت أنها كانت تعرف كثيراً من الشخصيات العامة فى الشرطة والرئاسة والأزهر والقضاء ويبدو أنها لجأت إلى الفقى لتحصل على نفقة مناسبة من والد زوجها الهارب الذى تركها بابنتين.
والحقيقة: إننى لست متأكدا أن ذلك سبب إبعاد الفقى من الرئاسة وأتصور أن سحر الحكى الذى يتمتع به جعله يروى عن مبارك حكايات استغلها خصومه فى الرئاسة ليتخلصوا منه.
وبحاستى عرفت بالخبر قبل إعلانه عندما تلقيت اتصالا من السكرتير العسكرى للرئيس اللواء طيار حسن صقر طالبا منى الكف عن انتقاد البابا شنودة وعندما سألته عن الفقى ادعى أنه لم يسمعنى.
ولم تمر سوى أيام حتى طلب الفقى أن نلتقى على غداء فى النادى الدبلوماسى وهناك سلمنى ورقة شرح فيها ملابسات ما حدث طالبا منى تمزيقها أو حرقها بعد قراءتها وبالطبع احتفظت بها.
فى يوم الاثنين التالى نشرت على الصفحة الأخيرة من «روز اليوسف» مقالا بعنوان: بعد أن تذهب السلطة، بشرت فيه بالصداقة الحقيقية التى بدأت بيننا بعد أن ترك منصبه الحساس والمؤثر فلا صداقة تقوم على مصالح.
وأضفت: إن اختفاء مصطفى الفقى من الرئاسة أدى إلى اختفاء معلومات كثيرة كانت تصل إلى الرئيس مبارك.
واستطردت: إن السؤال ليس لم ترك مصطفى الفقى الرئاسة بعد ثمانى سنوات وإنما السؤال كيف استمر فيها ثمانى سنوات؟.
ويبدو أن السؤال جعل مبارك يخضع منصب سكرتير المعلومات لقواعد العمل فى الخارجية لا يبقى فيه من يتولاه أكثر من أربع سنوات.
فى رمضان التالى دعيت إلى حفل إفطار الشروق وهناك التقيت بواحد من الكبار فى الرئاسة اشتهر بالصرامة والسيطرة والكراهية وما أن صافحته حتى وجدته يقول فى دهشة:
كيف خانك ذكاؤك ومدحت شخصا أبعده الرئيس من منصبه نصيحتى إليك حاول إصلاح ما أفسدته فى أقرب فرصة.
وفى تلك اللحظة جاء الفقى مرحبا فإذا بالرجل يقبله ويشيد به ويتحدث عن الخسارة التى أصابت الرئاسة بإبعاده.
والحقيقة أن مبارك لم يغضب منى بل على العكس طلب من صفوت الشريف وزير الإعلام وقتها أن أغطى رحلاته إلى الولايات المتحدة برؤيتى المختلفة عن رؤية رؤساء تحرير الصحف القومية وإذا ما التقيته كان يسألنى: كيف عرفت المعلومات التى نشرتها عن الرحلة؟ ولكنه لم يكن ينتظر الإجابة.
فى عام 2004 عندما كان الفقى رئيسا للجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشعب طلبه رئيس المجلس الدكتور فتحى سرور ليبلغه بقرار الرئيس مبارك بذهابه إلى إسرائيل بعد رفضه سفر الدكتور فتحى سرور التى جاءت الدعوة باسمه.
كانت المناسبة مرور 25 عاما على اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية حيث سيلقى أريك شارون رئيس الحكومة خطابا فى الكنيست ووافق الفقى بشرط أن يلقى كلمة يصف فيها إسرائيل بالعنصرية وعدم احترام المعاهدات ولكن طلبه رفض فما كان منه إلا أنه اعتذر عن المهمة واضعا الأسباب النفسية فوق المتاعب الصحية التى كان يعانى منها فى ركبتيه.
وعوقب الفقى بعدم الظهور فى التليفزيون حتى شجعه اللواء أبو الوفا رشوان سكرتير الرئيس المعروف بأخلاقه الدمثة على الاتصال بمبارك الذى بادره قائلا:
لم رفضت قرارى بالسفر إلى إسرائيل؟ عادل حمودة ومصطفى بكرى خوفوك؟.
كان بكرى قد كتب: لا تذهب يا دكتور وكتبت: تاريخك القومى لا يسمح لك.
قال الفقى: يا سيادة الرئيس هؤلاء لايستحقون الذهاب إليهم.
قال مبارك: كلامك صحيح هؤلاء قتلوا الناس وليس لهم عهد.
وكان يقصد مقتل الشيخ أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسى من قيادات منظمة حماس التى ساهمت إسرائيل فى خلقها ودعمها لإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية.
فى تلك الفترة سألنى محمد فريد خميس وكنا فى الإسكندرية نتناول طعام العشاء فى حضور صديقنا الثالث الدكتور حماد عبدالله: من أصلح شخصية لتولى رئاسة الجامعة البريطانية التى أسسها فى مدينة الشروق؟ ودون تردد اقترحت الدكتور مصطفى الفقى قائلا: إن له قدمًآ فى الحياة الأكاديمية قام بالتدريس فى الجامعة الأمريكية وأخرى فى الحياة العامة وهو الأنفع للجامعة.
وفاتح خميس الرئيس فى ترشيحه ووافق الرئيس بشرط أن يرشح الفقى نفسه فى دائرة دمنهور فى الانتخابات التشريعية التالية 2005 أمام أحد أقطاب الإخوان الدكتور جمال حشمت.
ونال الفقى المنصب وسط طعنات من تلك الشخصية الرئاسية التى اعترضت على ما كتبت عنه من قبل حتى اقتنع خميس بأن مبارك غاضب منه وأن غضبه سيؤثر وسيحرم الجامعة من كليات عملية تطالب بها وهنا طلب منى خميس أن أقنع الفقى بالاستقالة على أن يترك له السيارة المرسيدس ويعوضه بمكافأة سخية وبشكر على نصف صفحة فى الجرائد اليومية وصرف ما يستحق من مرتب على المدة المتبقية فى عقده.
ووافق الفقى ولكن خميس لم يلتزم بما وعد به ولم نتردد أنا والدكتور حماد فى توجيه اللوم إليه بل قمنا من على مائدة عشاء عندما سمعنا كلاما لم يعجبنا عن الفقى.
ولكن شيئاً ما حدث لخميس جعله يلجأ إلى الفقى من جديد طالبا النصح والمشورة وكالعادة لم يخذله الفقى.
وفى أعقاب تظاهرات يناير 2011 رشح المجلس الأعلى للقوات المسلحة الفقى لمنصب أمين عام الجامعة العربية بينما رشحت قطر الدكتور نبيل العربى وبمبادرة منى عرضت على عمرو موسى معبرا عن مجموعة من المثقفين والمفكرين دعم ترشحه فى الانتخابات الرئاسية مقابل دعم ترشح الفقى لمنصب الأمين العام للجامعة العربية ولكنه بدا منحازا إلى نبيل العربى ومن سوء الحظ أن لم يفز فى الانتخابات الرئاسية.
سنوات طوال عرفت فيها الدكتور مصطفى الفقى وتابعت مسيرته ونجاحاته وإخفاقاته وكأنه سيزيف فى تلك الأسطورة الشهيرة التى حكمت فيها الآلهة على رجل بأن يحمل صخرة ويصعد بها إلى قمة الجبل لكنه ما أن يصل إلى القمة حتى تسقط الصخرة ليعود ويحملها صاعدا من جديد وهكذا دون توقف.
والأسطورة رغم ما فيها من وجع تثبت أن الإنسان الموهوب يقوم من جديد إذا سقط ويصعد مرة أخرى إذا انهار التل.
ومذكرات مصطفى الفقى دليل على ذلك رغم عجز علاء مبارك عن استيعاب ذلك.
جريدة الفجر
https://www.elfagr.com/4123242