لا أدرى لماذا تقفز إلى الذاكرة صورة شاعر الربابة وهو يتصدر المجالس القديمة، سواء فى المقاهى القديمة أو دواوين العمد والأعيان، وهم يتنافسون ويروون للمستمعين سيرة أبوزيد الهلالى.. أو بطولات الظاهر بيبرس، المؤسس الحقيقى لدولة المماليك، أو سيرة سيف بن ذى يزن.. أو شاعرية وفروسية عنترة، لأن هؤلاء الرواة كانوا يضيفون من ذاتهم الكثير وهم يروون هذه السير، التى حاول الخال عبدالرحمن الأبنودى، على مدى عمره، أن يحولها إلى حكايات مكتوبة، نعم أتخيل الدكتور مصطفى الفقى فى كل هؤلاء الرواة.. والسبب كتابه الأخير «رحلة الزمان والمكان».. ذلك أن الدكتور الفقى هو الذى أعطانا هذا الإيحاء عندما تصدرت كلمة «الرواية» مذكراته التى رواها لنا عبر ٥١١ صفحة مدعمة بالصور وبعض المستندات. ذلك أن الراوية كان يروى لنا صفحات حياته، أى مذكراته، تمامًا كما كان هؤلاء الرواة الأوائل يتغنون بما يعلمون بأسلوب تداعى المعانى.. وما ذكره صاحب المذكرات يؤكد ذلك، إذ يروى لنا «بعض» ما عاشه.. مشاركًا أو فاعلًا.. أو حتى معايشًا.. والفقى- مع حفظ الألقاب- خير من يروى كل ما عاشه أو شاهده.
وهنا أكاد أقول إن الدكتور الفقى لم يذكر «كل» الحقيقة.. بل حجب عنا كثيرًا مما شاهد أو شارك فيه.. ربما عملًا بنظرية حماية الأمن القومى.. ورغم أن ذلك عكس ما لجأ إليه معالى أحمد أبوالغيط فى كتابيه الرائعين، وأيضًا مذكرات أشهر سفير مصرى فى أمريكا السفير عبدالرؤوف الريدى.. وكذلك «سنوات الجامعة العربية» التى قدمها لنا أشهر وزير لخارجية مصر، وهو معالى عمرو موسى.. ولكن بلا جدال فإن هذه الشوامخ الثلاثة تكمل بعضها البعض.
وأكاد أجد بين سطور رواية الدكتور الفقى أكثر مما حجبه عنا، وبالذات ما عاشه فى قصر الرئاسة طوال سنوات ثمانٍ.. ولم يشفِ غليلنا بأن يذكر خروجه من الرئاسة.. حيث مازال البعض يتذكر «ما أشيع أيامها».. ولم يروِ لنا سر موقف شيوخ قطر.. وأيضًا المشير عمر البشير.. فيما يتعلق بموضوع ترشيح الدكتور الفقى لمقعد أمين عام الجامعة العربية.. تمامًا كما حجب الكثير فى الفصل الخاص بخطايا مبارك وبداية السقوط، وكنت أتوقع أن يسارع الدكتور الفقى إلى أن يختم روايته فيما رواه من تأملات ودروس من الحياة.
** ورغم ذلك، ولأن جيلى يعلم كثيرًا مما حدث فى السنوات الأخيرة من رئاسة الرئيس مبارك.. أقول إن ما حجبه صاحب المذكرات أكثر مما رواه.. وربما يعود الكاتب إلى البوح بذلك فى كتاب جديد.. والمؤكد أن هذه المذكرات أضافت لنا الكثير.. وألقت مزيدًا من الضوء على فترة هى الأكثر خصبًا طوال القرن العشرين.
وبلا جدال، فإن الدار المصرية- اللبنانية قدمت لنا هذه المذكرات فى أفضل ثوب.. وأراها من كبرى دور النشر المصرية، رغم هذا البنط الصغير الذى طبعت به هذه المذكرات، ولو كانت قد طبعتها ببنط أكبر ربما وصل عدد الصفحات إلى ضِعف ما خرجت به.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2247099