لا أُضيف جديداً حين أتحدث عن الأحوال والعلاقات السياسية العربية المسكونة منذ زمن بأزمات وخلافات مزمنة صريحة أو مكتومة. والمقلق أن هذه الأزمات والخلافات لا تقتصر على الحكومات لكنها تشمل الشعوب أحياناً. وكان مشهد التشرذم العربى هو المحصّلة النهائية لذلك. والاعتراف واجبٌ بأن القمم العربية السياسية متواضعة المردود لأسباب كثيرة ومعقّدة. لهذا فإن الثقافة (بقيمها وتأثيرها وأدوات عملها) ما زالت مطروحة لكى تحقّق ما لم تحققه السياسة. ثمة اقتناع نظرى بأن ذلك ممكن ومطلوب، لكن الاقتناعات النظرية وحدها لا تكفى لإنجاز هدف ما بغير إرادة وعمل كفيلين بنقل الفكرة من حيز الاقتناع إلى التنفيذ.
ولعلّ الدعوة لعقد قمة ثقافية عربية التى كتب عنها منذ أسابيع بالأهرام الدكتور مصطفى الفقى مقالته السادسة تكون مدخلاً لدفع هذه الفكرة قُدماً إلى الأمام، وهو يُلح على الفكرة مستحضراً الظروف التى أُطلقت فيها لأول مرة ويطلب شهادتى بشأنها باعتبارى كنت أشغل وظيفة الأمين العام لمؤسسة الفكر العربى يوم أن أُطلقت الفكرة آنذاك. والحق أن الدكتور مصطفى الفقى هو بالفعل أول من أطلق الفكرة، وكل إنجاز فى الحقيقة يبدأ بفكرة. كان ذلك فى الجلسة الختامية لمؤتمر نظمته مؤسسة الفكر العربى فى بيروت بعنوان كتابٌ يصدر.. أمةٌ تتقدم برئاسة الأمير خالد الفيصل رئيس مجلس أمناء المؤسسة. وقد حرصنا آنذاك على أن يضم المؤتمر عدداً كبيراً من المسئولين عن الثقافة فى العالم العربى فى القطاعات الحكومية والخاصة والأهلية، وأن يعكس الحضور فى المؤتمر كل الجهات المعنية بقضية المعرفة وصناعة الكتاب فى العالم العربى من مؤلفين وإعلاميين واتحادات كتّاب ونشر وملكية فكرية. وتمخّض هذا المؤتمر عن مجموعة توصيات متنوعة وثرية كان من بينها إطلاق جائزة سنوية لأفضل كتاب عربى بلغت قيمتها آنذاك مائة ألف دولار، وتذليل العقبات التى تعترض النهوض بحركة التأليف والترجمة والنشر والملكية الفكرية، ثم كان أبرز ما تضمنه البيان الختامى للمؤتمر هو فكرة الدكتور مصطفى الفقى بشأن الدعوة لقمة ثقافية عربية. وفى صباح اليوم التالى مباشرة أرسل الأمير خالد الفيصل رسالة إلى السيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية آنذاك يدعوه فيها إلى تبنى فكرة القمة الثقافية العربية.
ولم يتوان السيد عمرو موسى فأسرع إلى دعوة مؤسسة الفكر العربى إلى لقاء فى القاهرة ضم نحو ثلاثين من المفكرين والمبدعين والمثقفين العرب، وما زلت أذكر كيف حضر الأمير خالد الفيصل بطائرة خاصة للقاهرة فى زيارة لست ساعات فقط. وكان اللقاء ثرياً انتهى بتكليف مؤسسة الفكر العربى مع المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة أليكسو بالإعداد لهذا المؤتمر. بادرت مؤسسة الفكر العربى إلى عقد مؤتمر تحضيرى مغلق أشبه بخلوة فكرية ضمت نحو مائة من المعنيين بالعمل الثقافى العربى، ومن ناحيتنا قمنا فى الأمانة العامة بتجميع كل ما سبق صدوره من مشروعات ومقترحات ثقافية عربية منذ إنشاء جامعة الدول العربية ووضعه فى ملف متكامل بين يديّ الحضور. وكان لافتاً أن نكتشف أن العرب لم يكفوا يوماً عن إطلاق مشروعات ومبادرات ثقافية كبيرة وطموح، لكن لسبب ما ظلت معظم هذه الأفكار حبراً على ورق ولم تأخذ طريقها إلى التنفيذ. كانت فكرتنا ألا نلغى جهد من قبلنا وأن نتبع منهج العمل المؤسسى الذى يقوم على التشبيك وتضافر الجهود، ثم أضفنا إلى ذلك الأفكار الجديدة التى خلص إليها المشاركون فى المؤتمر التحضيرى ليصبح بين يدينا رؤية عمل متعددة المحاور تم إرسالها إلى جامعة الدول العربية، لكن الأحداث السياسية التى اجتاحت بعض الدول العربية فى بداية 2011 استأثرت بكل الاهتمام فتراجعت فكرة القمة الثقافية العربية بفعل تطور الأحداث وتغير الأولويات.
السؤال الآن هل ما زلنا وسط التطورات العربية المتلاحقة والتحديات السياسية والاقتصادية والأمنية فى المنطقة بحاجة إلى عقد قمة ثقافة عربية وإحياء مشروعها القديم؟ الإجابة أن حاجتنا ما زالت ملحة لمثل هذه المبادرة ليس فقط لأن العمل الثقافى العربى المشترك لن يواجه بحساسيات وتناقضات العمل السياسى، أو لأنه بطبيعته قادر على المدى البعيد أن يُذيب الشوفينيات والحساسيات القطرية بين الشعوب العربية، ولكن أيضاً وعلى وجه الخصوص لأن العمل الثقافى العربى المشترك ضرورة لمواجهة مخاطر وتحديات معظمها إن لم يكن جميعها ذات تشخيص ثقافى بالأساس. فالإرهاب له جذور ثقافية، وظواهر التطرف والانغلاق والكراهية ذات جذور ثقافية أيضاً، وإطلاق قدرات ومواهب العقول العربية، وإصلاح نظم التعليم العربى، كل هذا وغيره هو فعل تغيير ثقافى بالأساس. العمل الثقافى العربى هو أحد الأدوات المهمة لمواجهة ظواهر الاستلاب الوطنى، وتراجع اللغة العربية، واغتراب الهوية الحضارية، والشعور العربى بالحيرة والدونية فى مواجهة الآخر المتقدم، وعدم الثقة فى الذات. نحتاج لمشروع ثقافى عربى لمواجهة هذه التحديات يُذكّرنا بما هو مشترك وعميق وطويل المدى بيننا، مشروع ثقافى عربى للبناء عليه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فى حقبة يتعرض فيها العرب لأخطر وأذكى الاختراقات الخارجية ما دام أن السياسة تزيدنا فرقة لسبب أو لآخر.
وأظن أن المثقفين العرب والمعنيين بالعمل العربى المشترك عموماً متفقون على أهمية الثقافة ودورها، وأتصوّر أيضاً أنهم متحمسون لفكرة القمة الثقافية العربية. لكن نجاح الفكرة يتطلب مقومات وشروطا معينة حتى لا يكون مآلها هو مآل القمم العربية ذاتها من حيث تواضع المردود وغلبة الحسابات السياسية القطرية على الأهداف المشتركة الكبرى. والواقع أن هناك مسألتين جديرتين بالتفكير. الأولى شكليةٌ تتعلق بطبيعة مستوى المشاركة وهل تأخذ القمة الثقافية صورة القمم العربية التقليدية من حيث اقتصارها على التمثيل الحكومى رفيع المستوى أم تكون قمة بتمثيل حكومى ما يُدعى إليها أرباب العمل الثقافى العربى فى القطاعات الحكومية والخاصة والأهلية. هذه مسألة تحددها جامعة الدول العربية، ولربما تحذو حذو القمة الاقتصادية العربية التى استضافتها دولة الكويت فى عام 2009. أما المسألة الأخرى الموضوعية فتتعلق بالقضايا والتحديات الثقافية المطروحة للنقاش، هنا لدينا الكثير، بل الكثير جداً، من المبادرات والمشروعات التى يمكن البناء عليها ابتداء مما أنجزته مؤسسة الفكر العربى ومنظمة أليكسو إضافة لأى جهة أخرى ترى جامعة الدول العربية إشراكها. المهم أن نبدأ وأن يتوافر لدينا إرادة الإنجاز. فكم لدينا من أفكار ومبادرات ظلت حبيسة الأدراج إما لأن المشروعات تتغير بتغير الأشخاص، وإما لأننا نفتقد إلى روح المثابرة والنفس الطويل.
فى النهاية أوقن أن أهم ما ينقص هذه الأمة فى هذه الحقبة هو الثقة بالذات. تقول جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل السابقة فى مذكراتها (المترجمة ضمن منشورات مختارات التعاون العالمية) بخلاف ثقتنا فى أنفسنا لم نكن نملك شيئاً فى بداية تأسيس الدولة وكنا نخفى ذلك. أما نحن فى العالم العربى فنكاد نمتلك كل شيء باستثناء الثقة بالنفس!.
http://gate.ahram.org.eg/News/2572757.aspx