كثيرة هى الأوصاف التى وُصِف بها الدكتور مصطفى الفقى بقدر ما هى كثيرة الزوايا التى يمكن النظر منها إليه ، كان قارئا مجتهداً فى طفولته فوصفوه بأنه دودة كُتُب، وجنح إلى الدين فى شرخ الصبا فنادوه الشيخ مصطفى، واتسم بالعقل المنظم فأطلقوا عليه المفهرِس، وكان حلقة وصل بين الرئاسة والمثقفين فلقبوه بمثقف الدولة، أما الوصف الأكثر دلالة عليه فهو الحكّاء العظيم، وفى سيرته الذاتية الصادرة قبل أسابيع عن الدار المصرية -اللبنانية تحت عنوان: الرواية ، رحلة الزمان والمكان، بعضُ من هذا الحكى العظيم. لا تصادفك داخل الرواية معلومة إلا وتجده يؤصّل لها ولا اسم إلا وتراه يتتبع شجرة عائلته بحيث إن قرأ هذه السيرة ابن جيل الستينيات يفهمها وإن قرأها ابن الألفية الثالثة يفهمها، الأول لأنه عاش تلك المرحلة والثانى لأنه صار ملماً بها على الوجه الأكمل. فى الرواية نزوع للسخرية حتى من الذات ، وهذه على أى حال صفة معروفة تلازم صاحب الرحلة، يقصد بالسخرية تلطيف الأجواء تارةً وتارةً أخرى يستخدم السخرية من باب التورية السياسية . يلتزم فى روايته بالتطور الزمنى لمسيرته ولا يلتزم به فى الوقت نفسه ، فينتقل بنا من لحظة الميلاد التى يوثقها ميلادياً وهجرياً وقبطياً ، إلى الجامعة بصخبها ونشاطها فى إطار منظمة الشباب الاشتراكى والتنظيم الطليعى ، إلى الخارجية بدروسها وخبراتها وبعض تلك الدروس يوازى أربعين عاماً، إلى قصر الرئاسة سكرتيراً للرئيس للمعلومات والمتابعة ثم رئيس مكتب المعلومات والمتابعة برئاسة الجمهورية ، إلى البرلمان معيناً ثم منتخباً، وأخيراً إلى مكتبة الإسكندرية مديراً لها، ومع ذلك ظل المؤلف رائحاً غادياً من مرحلة إلى أخرى وكأنه لا سلطان على الحكى إلا وحى الخاطر، وفى كل هذه المراحل كان يصنع من حوله دائرة ضوئه كما يقول دكتور صلاح فضل.
عندما دخل الدكتور الفقى قصر الرئاسة فى عام ١٩٨٥ كان الرئيس مبارك قد تسلم السلطة قبل أربع سنوات ، وهناك بشكل عام نظرة إيجابية لأول عشر سنوات من حكم مبارك : انفتاح سياسى فى الداخل بعد كارثة سبتمبر فى عهد السادات ، ومحاولة إعادة التوازن لعلاقات مصر الخارجية وبالذات فى مكوّنها الإقليمى العربى . ومع ذلك التقط الدكتور الفقى عدداً من السمات فى شخصية مبارك تكثّفت بمرور الوقت وانعكست لاحقاً على تعامله مع ثورة ٢٥ يناير ، ومن هذه السمات علاقته بالوقت وعدم تحليه بالمرونة .كان مبارك كما وصفه الدكتور الفقى لا يبدو فى عجلة من أمره ، يفضل أن يأخذ وقته فى التفكير مما تسبب فى إضاعته الكثير من الفرص ، فالقرار الصائب لاقيمة له بعد فوات الأوان . وكان معتداً برأيه لايقبل أن يُفرض عليه شىء حتى إذا ما استقال أحد من وزرائه رفض قبول استقالته ليعود ويطيح به فى أول تعديل وزارى . وعندما خرج الدكتور الفقى من الرئاسة فى أكتوبر ١٩٩٢ لم تنقطع صلته بالسلطة ، وسمح له ذلك أن يتابع عن كثب صعود نخبة طفيلية من رجال الأعمال والسياسيين المرتبطين بهم وتحكُم هذه النخبة فى مقدرات البلاد ، ثم جاء مشروع التوريث ليمثل القشة التى قصمت ظهر البعير .كان أى دارس لتاريخ مصر السياسى يدرك أن مشروع التوريث لا يمكن له أن يكتمل ، وفى داخل مؤسسات الدولة كان هناك معارضون للفكرة من حيث المبدأ، وقد كتب الدكتور الفقى مقالاً واضحاً فى هذا الخصوص يميز فيه بين إدارة الشركات وقيادة الأوطان التى تحتاج رؤية وكاريزما وتواصلاً مع الناس ، بل إن مبارك نفسه لم يؤيد التوريث فى البداية ونفاه للدكتور الفقى فى حديث بينهما مؤكداً أن ما جرى فى سوريا لا موضع له فى مصر ، لكن تطورت الأمور و تغير موقف مبارك فى العام الأخير من حكمه . أما الإخوان فإنهم وقد أدركوا ألا مجال للتعاون مع الدولة إلا عبر ملف التوريث فإنهم لم يمانعوا فى ذلك مادام سيأتى «رئيس يراعى حق الله ويتفهم حق جماعة الإخوان المسلمين فى التعامل الكامل» ، وهذه هى الانتهازية السياسية بعينها.
لقد قدّم لنا الدكتور الفقى تحليلاً رصيناً للصراعات التى تجرى فى داخل أروقة السلطة بين المؤسسات والشخصيات المتنفذة ، وذلك فى لعبة شدّ حبل لا تنتهى وصفَها لنا بالقول «الصراع على السلطة قرب القمة شديد الخطورة». أما علاقته هو بالسلطة فشبهها «براكب الأسد الناس منه فى خوف وهو على نفسه أخوف»، وفى حياة الدكتور الفقى الكثير من المواقف التى اختلف فيها مع السلطة وعوقب بسببها، فعندما رفَض زيارة إسرائيل -فى ذكرى مرور ٢٥ عاماً على معاهدة السلام -مالم يُسمَح له بإلقاء كلمة ينتقد فيها سياسة إسرائيل العنصرية تمت تنحيته عن رئاسة لجنة مصر والعالم بالحزب الوطنى ، وعندما دعا للتقارب مع كلٍ من السودان وإيران بعكس اتجاه نظام مبارك تم منعه من الظهور الإعلامى لمدة سبعة أشهر كاملة، هذا دون الحديث عن اختلافه فى بعض المواقف مع أطراف سياسية من داخل مصر وخارجها وعادة ما لم يكن يمر أى اختلاف دون ثمن.
إن رواية الدكتور مصطفى الفقى عن رحلته عبر الزمان والمكان تكشف عن شخص استثنائى بكل المقاييس، شخص كان يعد نفسه للزعامة منذ الطفولة لدرجة أنه كان يمارس الخطابة داخل حظيرة الدجاج ويسمع صوت التصفيق عندما يحرك الدجاج أجنحته، شخص يؤمن بالوحدة الوطنية حتى النخاع وينسج علاقات متينة وبقوة متكافئة مع مؤسستّى الأزهر والكنيسة، شخص يحتفظ من كل مرحلة بأثر ويصنع بين الجميع حالة من التعايش فى داخله فإذا بقلبه مع ناصر وعقله مع السادات. إنه المتخصص فى الفيزياء الدارس للعلوم السياسية، والممارس للدبلوماسية المتمرد على قواعدها، واليقظ فى غفوته، وقاضى حوائج الناس وله عند كل منهم سهم أو حتى سهام.
http://gate.ahram.org.eg/News/2572763.aspx