الخوف ليس ظاهرة جديدة ولا صفة ذميمة، إنما هو إحساس بالخشية من أمر ما، ولذلك فالخوف صفة معتادة لدى البشر بدأت من الخوف إزاء غضب الطبيعة وظواهرها الاستثنائية من زلازل وبراكين وفيضانات وسيول وصولًا إلى خوف الإنسان من أخيه الإنسان وجبروته غير المتوقع أو المتوقع على السواء، فلم يظلم الإنسان في حياته مثلما ظلمه أخوه منذ أسطورة (قابيل وهابيل)، ولقد ساوى القرآن الكريم بين الجوع والخوف وهي مساواة بليغة وعميقة ورائعة، إذ يقول الحق تبارك وتعالى "ٱلَّذِىٓ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ" والمساواة بين الجوع والخوف هي فلسفة بلاغية ينفرد بها الذكر الحكيم، وأظن أن الخوف ظاهرة غير استثنائية لأنها تشمل البشر جميعًا بدرجات متفاوتة فمنهم من يظهره ومنهم من يقدر على إخفائه، ولقد لاحظت ذلك الأمر بين ركاب الطائرات فالكل لديه هاجس ولو قليل ولكن هناك من يبدو عليه أحيانًا القلق وهناك من يخفي ذلك القلق بحيث لا يشعر بما في داخله أحد كما أن القدرة على الإخفاء تتفاوت من شخص إلى آخر وما بين الرجل والمرأة ولكنها في النهاية ميزة يتمتع بها البعض ولا يتصف بها البعض الآخر، والخوف ظاهرة عاقلة قابلة للتحليل النفسي والعلاج العصبي، فالطفل لا يخاف النار ويمد يديه نحوها بلا وعي حتى إذا لسعته تولدت لديه الخبرة الأولى وترسبت في أعماقه مخاوف الحرق، ولذلك فإننا نعتز بتعبير خاص رددته كتابات الأولين، وأعني به تعبير (شجاعة الجاهل) حتى أن الأدب الشعبي المصري المعاصر يروي قصة خروج الخديوي عباس حلمي الثاني في نزهة بالصحراء ومعه عدد قليل من مرافقيه حتى وصلوا إلى خيمة أحد العربان على أطراف الصحراء ونزل أحد المرافقين عن حصانه، وقال لشيخ الخيمة: هذا أفندينا عباس حلمي، فرد الإعرابي كيف حالك يا عباس؟ وماذا تفعل هنا؟ ذلك أنه كان يجهل صورته، فالرجل بعيد عن الصحف ولم يكن التليفزيون قد بدأ وبالتالي فإن ما فعله ذلك الأعرابي في التجاوز أثناء الحديث مع خديوي مصر كان سببه ما نسميه (شجاعة الجاهل) ويومها قال عباس حلمي لهذا السبب لا نجند الأعراب في الجيش المصري حتى الآن! وهذه الرواية على طرافتها تمثل نموذجًا للجرأة التي تصيب من لا يعرف والشجاعة التي يتحلى بها من لا يدرك الحقيقة، فالخوف والقلق صفات تتزايد حدتها مع الوقت، بل إن ظاهرة الخوف من المرض قد صنعت في الأدب الفرنسي شخصية المريض بالوهم الذي يتوهم دائمًا أن لديه كل مرض يسمع عنه أو يعتريه الخوف من وصوله إليه، ونحن نؤكد هنا أن الخوف ظاهرة طبيعية، لا يجب النظر إليها من منظور ضيق بل يجب اعتبارها جزءًا لا يتجزأ من التركيبة البشرية لأنها صفة من صفات المخلوق الذي يخشى المرض ويخاف الموت ويتحسب من المجهول في كل وقت، ولنا هنا عدة وقفات تتمثل فيما يلي:
أولا: إن المبالغة في الخوف جنوح مرضي يحتاج إلى علاج كالخوف من الأماكن المرتفعة أو من ركوب بعض وسائل المواصلات كما نلاحظ أن بعض هذه المخاوف تخضع للعلاج النفسي، فأنا شخصيًا أخشى الأماكن المزدحمة بشدة لذلك لا أدخل في تجمعات بشرية مهما كانت المناسبة لأنني أشعر باختناق حقيقي كذلك فإن توقف المصعد نتيجة عطل فني قد سبب لي عقدة نفسية تجعلني حتى الآن أخشى المصاعد ولا استخدمها إلا في وجود عامل المصعد.
ثانيًا: إن ظاهرة الخوف من وباء الكورونا الذي اجتاح الجنس البشري في الآونة الاخيرة هي ظاهرة متوقعة، وقد كان من نتائجها أن المخاوف من الوباء لا تقل في معاناتها عن الوباء ذاته بل إن تردد الملايين في تعاطي التطعيم الطبي المضاد لذلك الداء إنما يعكس هو الآخر جزءًا من محنة الخوف منه كذلك فإن انتشار الشائعات حول الوباء وتضارب الأقوال في أسبابه وملابساته واحتمالاته القادمة كل هذه الأمور جسدت المخاوف وأشعرت الجميع بأن الموقف صعب وأن ما هو قادم قد يكون أصعب.
ثالثًا: إن الخوف درجات يختلف ظهورها من شخص إلى آخر والذين شهدوا لحظات إعدام صدام حسين على شاشات التليفزيون يدركون كم كان الرجل قويًا إلى حد التبلد لا مباليًا بشكل غير معهود، فقد واجه حبل المشنقة بجسارة وهدوء بعد أن قتل الآلاف خلال حياته المثيرة، لذلك فإن التفاوت الإنساني في درجات الإحساس بالخطر هو أمر مؤكد يختلف من شخص إلى آخر بل ومن قومية إلى أخرى، فنحن نعلم عن بعض القبائل البدائية أن لديها تصرفات نادرة تؤكد قوة التحمل والتعايش مع المناخ القاسي والظروف الصعبة والتحديات المحيطة.
خلاصة القول إن الإنسان الذي لم يعش الدهر كله ولم يعش في كل مكان يبدو أمامه المجهول واسعًا وفسيحًا لذلك فإنه يتعامل معه بكثير من الخوف الدفين والقلق الغامض خصوصًا وأنه كلما اتسعت مساحة المعلوم تزايدت أيضًا مساحة المجهول وليس العكس كما يتصور البعض من النظرة الأولى ويبقى هناك جانب مظلم في كافة مناحي الحياة مهما سطع الضوء أو تلألأت المصابيح، فالمجهول يخيف البشر ويحرمه من التجبر المطلق، فالإنسان محدود الزمان والمكان، وقد قال فيه القرآن الكريم ((إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولًا))!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 9 فبراير 2021.