« قصة الحياة هى التاريخ الحقيقى الوحيد»..هى مقولة لتوماس كارليل التى نرى على ضوئها قصة حياة د. مصطفى الفقي، التى قرأتها ووجدتها قصة مشوقة ومختلفة فى كل جوانبها عن المعهود بأدبيات السير الذاتية. فى كتابه «الرواية: رحلة الزمان والمكان»، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، يتعهد الفقى بالصدق والشفافية مؤكدا فى مقدمته« أعتقد أن ميزان التاريخ عادل على المدى الطويل، ينصف الناس، وينتصر للحق ويبحث عن الحقيقة».
يبدأ كتابه بذكريات النشأة الأولي، فهو ابن قرية مصرية تابعة لمحافظة البحيرة التى أنجبت قراها ومدنها الكثيرين مثله من وجهاء مصر عبر التاريخ، منهم خمسة مشايخ للأزهر هم: محمد عبد الله الخراشى أول شيخ للأزهر وأحمد الدمنهورى وسليم البشرى ومحمد شنن ومحمود شلتوت، إضافة إلى مفتى الديار المصرية الإمام محمد عبده. ومن الأدباء توفيق الحكيم ومحمد عبد الحليم عبد الله وعبد الوهاب المسيري، وأسرة نجيب محفوظ. كما أنجبت فائزا بجائزة نوبل هو أحمد زويل. أنجبت أيضا ثلاثة من العسكريين الأفذاذ هم محمد عبد الحليم أبو غزالة وحسن أبو سعدة ومصطفى الحناوى.
وانجبت أيضا الحاخام أبو حصيرة وكيرلس السادس بابا الإسكندرية وحسن البنا وعبد الحميد كشك والوزير المرموق احمد جويلى والشيخ منصور الشامى الدمنهورى ومحمد عبد المطلب وكثيرا من الفنانين والشخصيات العامة الأخرى.
يسترسل فى ذكريات الطفولة ومدى قربه من والديه وأسرته، ليكشف بين السطور عن تأثير والديه على تشكيل شخصيته، وخاصة والده الذى كان مدعوا دائما لحضور الجلسات العرفية التى تميز بها الريف المصرى لحل كل المنازعات بين العائلات الكبيرة، وكان الفقى ملازما لوالده فى تلك المجالس التى تعرف خلالها على الكثير من قضايا الحياة مما أسهم فى تشكيل وإثراء خبرته وشخصيته مبكرا. يصف عزاء والده بالحضور الرسمى والشعبى الكبيرين الذى شخصه كمال الشاذلى قائلا له: « لما حد يموت عندك متعملش العزاء فى جوامع، يبقى فى الإستاد بعد كده». ويحكى عن مكالمة الرئيس الأسبق حسنى مبارك معه لتعزيته وكيف خشى أن يجيب سؤاله عن عمر والده الحقيقى عندما توفى عن (79 عاما) حتى لا يتشاءم الرئيس الذى تخطى السبعين عاما وقتئذ، ويعتبر الأمر فألا غير طيب له، فأخبره أن والده كان بالتسعينات، فقال مبارك « عال..عال»!! وعندما التحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. كانت الكلية ومنظمة الشباب هما المشكلان لاتجاهاته السياسية وسبب تعرفه على كثيرين من صناع القرار مثل على صبرى وحسين كامل بهاء الدين. وفيها تم التحقيق معه لجرأته وعدم توخيه الحذر أثناء وجوده بالتنظيم الطليعى بناء على أوامر على صبري. طويت صفحة الكلية التى كان رئيسا لاتحاد طلابها بتخرجه عام 1966 ليبدأ فصلا جديدا بالحياة العملية بتعيينه ملحقا دبلوماسيا بوزارة الخارجية فى ديسمبر 1966 ثم عين بوزارة الخارجية عام 1968.
يحكى عن أسرته وزواجه من السيدة نجوى على متولى وعن ابنتيه سلمى وسارة. وعقب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر صدر قرار بنقله إلى لندن ابتداء من أغسطس عام 1971، حيث عمل نائبا للقنصل. كانت لندن نقطة تحول كبيرة ونقلة فى حياته الثقافية والدبلوماسية والاجتماعية، حيث تعرف على كثير من الشخصيات المؤثرة بمصر والعالمين العربى والخارجي، فأسهمت بتكوينه الفكرى والشخصى أكثر من غيرها. من الأمور المهمة التى يكشفها فى كتابه ما ذكره حول مقتل الفريق الليثى ناصف، فبعد الحادث بيومين عندما سأله شمس بدران: « أريد أن أعرف منك كلمة واحدة: « هل تعتقد أن الحادث جنائى أم سياسي»؟ فأجابه: «بالقطع جنائي». يحكى أيضا كيف قابل السيدة جيهان السادات وتعرف أيضا على السيدة أم كلثوم والمهندس سيد مرعى ومحمود أبو وافية والكاتب الساخر محمود السعدني. ربما كان حصوله على الدكتوراه من جامعة لندن المرموقة، تزامنا مع عمله الدبلوماسى هو الحدث الأهم أثناء وجوده بلندن. تدور رسالته حول الأقباط فى السياسة المصرية الحديثة مع التركيز على ثورة 1919 وحزب الوفد. فقد اتخذ من مكرم عبيد باشا الوطنى الخالص البارز نموذجا للدراسة. طبعت الرسالة فى كتاب أصبح لاحقا مرجعا أصيلا عن الدور السياسى لأقباط مصر بالقرن العشرين. وجعلت الفقى أكثر الشخصيات التى تتمتع برضا المسلمين والأقباط. كما كانت سببا فى أن يختاره الرئيس مبارك ليكون مبعوثه الشخصى إلى البابا شنودة الذى أصبحت تربطه به صداقة حقيقية أسهمت كثيرا فى خفض نار الفتن التى كان يشعلها أعداء الوطن.
ثم يسجل لنا فترة عمله بمؤسسة الرئاسة التى استمرت ثمانى سنوات، انتهت فى أكتوبر 1992. يصف صعوبتها بكلماته «واحدة من أصعب فترات حياتى، فالوجود بالدائرة الضيقة المحيطة برئيس الدولة مهمة شاقة تجعل من صاحبها لا يدرك إذا كان سيعود إليها فى اليوم التالى أم لا؟ فهذه المناصب لا تبدأ برغبة أصحابها، ولا تنتهى أيضا بإرادتهم». تنم كلماته ومواقفه خلال تلك الفترة عن وفاء واحترام شديدين للرئيس مبارك وحرمه. كما يقص علينا حكايات داخل حكايته تكتب للمرة الأولى من مصدرها يزيح فيها الستار والغموض عن كثير مما كنا نسمع عنه.
تكشف «الرواية» بعضا من الجوانب الإنسانية والمواقف والقصص ذات المغزى التى تشملها رحلته الغنية فى الزمان والمكان. الحكاية الأولى كانت أثناء عمله أستاذا خارجيا مشاركا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بالفترة من 1978 1993 يحكى فيها عن موقف مع الراحل د. جلال أمين قائلا: «أتوقف قليلا أمام علاقتى بأحد كبار أساتذتها بمجال الاقتصاد وهو د. جلال أمين. توطدت العلاقة بيننا، وعندما كنت مديرا للمعهد الدبلوماسى بعد أن تركت العمل برئاسة الجمهورية اتصلت به ذات يوم، وقلت له إننا حريصون على تقديم كل التيارات السياسية لطلاب المعهد، وأدعوك بوصفك مفكرا يساريا مرموقا لإلقاء محاضرة بالمعهد. لم يبد استجابة بحكم عدائه لنظام مبارك، وقد قلت له فى نهاية الحديث إن ابنتى الصغرى سارة تدرس لديه مادة الاقتصاد، وتعانى من جفافها، فرد على قائلا: هل هذه مقايضة؟! أتريد أن تدعونى للمعهد الدبلوماسى كرشوة حتى أهتم بابنتك؟. نزل على قوله كالصاعقة، فلم يخطر ببالى على الإطلاق مغزى الكلام الذى وصل إليه، وتوترت العلاقات بيننا لعدة سنوات على إثر ذلك». من خلال معرفتى القريبة بالفقى أكاد أجزم أنه لم يشف أبدا من قسوة ووقع سياط هذا الموقف على روحه.
الحكاية الثانية هنا حول الشيخ الشعراوي، رحمه الله، يكشف الفقى «بعد رحيل الشيخ بيصار وتولى الشيخ جاد الحق مشيخة الأزهر، قلت للرئيس مبارك: لا بد من التفكير فى أحد علماء الإسلام الكبار ليتولى المشيخة، من طراز الشعراوى وسيد سابق والغزالي، حتى يستطيع أن يجمع الشارع الإسلامى ويواجه التطرف والإرهاب، وسيكون مسئولا عن تجديد صحيح الدين لدى المواطن العادي. فقال مبارك: طلبت من فؤاد محيى الدين فى وزارته أن يعرض مشيخة الأزهر على الشيخ الشعراوي، ولكنه رفض. تشككت فى الأمر لأننى أعرف أن الدكتور فؤاد محيى الدين كان يكره الشيخ الشعراوي، لذلك حققت بالمعلومة من خلال صديقى الشيخ محمود عاشور الذى أصبح لاحقا وكيلا للأزهر الشريف، فقد سأل الشيخ الشعراوى فى الأمر، وكان قريبا منه وقد أجابه قائلا: « والله لم يعرض على السيد فؤاد محيى الدين هذا المنصب, وإن كان عرض على لقبلته فمن ذا الذى يرفض مشيخة الإسلام، ويكون إمام أهل السنة فى العالم الإسلامى كله.. عدت الى الرئيس الراحل وذكرت له ما علمته، فقال: « والله هذا ما أبلغت به فى ذلك الوقت».
يختتم مصطفى الفقى روايته ورحلته بفقرات مشخصة له وشهادة على محتواه الإنسانى من أعلام مصر وأساطينها الذين عرفوه عن قرب، بشهادات لمحمد حسنين هيكل، وأحمد بهاء الدين، والبابا شنودة، ويوسف إدريس، وأحمد زويل، وسناء البيسي، وخيرى شلبي، وعلى الدين هلال، والسيد ياسين، وحسن حنفي، وجابر عصفور، وغيرهم. أختار منها هنا لأختتم به ما قاله صلاح فضل لتوافقه مع وجهة نظرى عن د.مصطفى الفقي: « كانت معجزة مصطفى الفقى الحقيقية نتيجة لتوافق فكرى وشخصيته المتينة أنه لم ينكسر بعد خروجه من منطقة الضوء، بل صنع لنفسه دوائر أخرى من الضوء فى حياته الدبلوماسية وفى حياته الفكرية والثقافية، أثبت فيها أنه ترتفع أسهمه ولا تنخفض، وتزيد محبته ولا تنقص، ويزيد قدره ووزنه الاجتماعي، وقدره ووزنه الوطني، وهو مغضوب عليه أو يبدو كأنه مغضوب عليه من مؤسسة الرئاسة».
http://gate.ahram.org.eg/News/2574749.aspx