مصطفى الفقى أحد عظماء مصر فى العصر الراهن، مفكر داهية ودبلوماسى بارع وسياسى ماهر، وقبل كل ذلك مثقف من الطراز الرفيع، يمتلك لغة أدبية رشيقة، يتقن الحديث والكتابة بها بالقدر ذاته من السلاسة والعذوبة والإمتاع، اصطلى بنار السلطة فى مؤسسة الرئاسة وهو فى أوج نضجه فى العقد الخامس من عمره، فذاق رعب ملاعبة الأسود، وتلذذ حينًا بنفوذ المقربين من أذن السلطان، لكنه- وهذا بيت القصيد- رأى الصورة البانورامية لمصر من بؤرة أحداثها الداخلية ومحيطها الخارجى، فكان فى مواقع تسمح له بأن يرسم معالمها وهى تتشكل فى مقلتيه، تعلم من حصافة أستاذه أسامة الباز أن يعرف حدوده ويلتزم بدوره.
أذكر أننى وجهت له اللوم مرة بعد الثورة لأنه لم يجسر على أن يعبر لمبارك عن أهمية بناء مستقبل مصر على أساس الحرية والديمقراطية وتداول السلطة، فصاح فى وجهى بمحبة وتلقائية: ماذا تظننى كنت أعمل، مجرد سكرتير للمعلومات لا يملك النصح ولا التوجيه؟، وهذه آفة حكامنا فى عدم قبول المستشارين الذين يسمعونهم ما لا يودون سماعه، فقلت له: كنت أفضل أن يكون غضبه عليك لأنك نقدته، فأنت جدير بأن تلعب دورًا كبيرًا فى تاريخ وطنك، وقد ظل ولايزال يلعب هذا الدور ما وسعته الحيلة والمناورة. فلم يحترق اسمه لابتعاده عن السلطة مثل غيره، بل سرعان ما لمع فى مرايا أخرى، وقد ظلم نفسه عندما تحسر على عدم توليه الوزارة مع عدد من أبناء جيله، فقد ظل أرفع من وزير سابق، لأنه انخرط فى عداد صناع الفكر وقادة الرأى، واكتسب «كاريزما» خاصة يحسده عليها معاصروه فيتهمونه بالتلون، وقد اجتهد فى سيرته الموسوعية المبدعة أن يؤكد ثبات مبادئه ومرونة ممارساته وصدق مقصده الوطنى والقومى فى جميع الأحوال، وهو يطلع علينا فى هذه السيرة التى طالما روى فصولًا منها فى أحاديثه وكتاباته.
وهذا سر تذكره للتفاصيل التى يطويها النسيان عادة، يصهرها الآن فى سبيكة ذهبية موسوعية تحمل عنوانًا لافتًا، يهندس أبوابها ويصوغ فصولها بإتقان وحكمة وشمول. يمتلك ذاكرة عجيبة لا تعتمد على الأوراق المحفوظة، وربما استعان ببعض خاصته فى توثيق التاريخ والسير الذاتية التى برع فى كتابتها، لكن أحدًا منهم لن يستطيع أن يعثر له على جملة افتتاحية باهرة يصدر بها كل فصل، ولا أن يفتش فى ذهنه عن نادرة حدثت منذ عقود من الزمن. فهو عندما يضع فى مقدمة حديثه عن الميلاد الجديد الذى أتيح له بخروجه من مؤسسة الرئاسة يستشهد بكلمة غاندى الحكيمة: «ليس كل سقوط نهاية، فسقوط المطر أجمل بداية»، فيوقظ فى قلوبنا لذة الصورة الشعرية الدالة، ولست أعرف من أين جاء بكلمة أرسطو التى أشك فى نسبتها، إذ يقول: «جذوة التعليم مرة، ولكن الثمار»، والبلاغة تقتضى أن تكون صحتها «جذور التعليم» لأنها هى التى تناسب الثمار. وأحسب أن ما أسعف ذاكرته لتستوعب هذه الصور البانورامية أنه ذو عقلية مفهرسة، كما سماه خيرى شلبى، ولعله قد تميز بين كتاب عصره بهذه القدرة الفائقة على رسم الصور الشخصية التى جمعها حديثًا فى ثلاثة مجلدات كاملة، وربما أسرف فى هذه السيرة، وخاصة فى الأجزاء الأخيرة منها، فى الاستطراد والاستعراض لمعارفه ومعلوماته، فصارت موسوعية أكثر منها شخصية، بينما أحكم الرواية فى الأجزاء الأولى فاكتسبت عبقًا أدبيًا فواحًا، خاصة عندما يتذكر دقائق صباه، حين كان يخشى مثلًا من الظلام مثل كل الصبية فى الريف، لكنه امتاز عنهم بالتميمة التى يُسمعها لنفسه وهو يردد بيت أبى القاسم الشابى الذى يقول:
«النور فى قلبى وبين جوانحى/ فعلام أخشى السير فى الظلماء»
وبفضل هذا البيت كان يعبر الطرقات الموحشة دون خوف، ثم يعقب على ذلك قائلًا: «لقد نجحت فى تحويل كثير من نقاط ضعفى إلى مظاهر قوة بالإرادة الصادقة». ولعل كاتبنا أن يكون من بقية هذا الجيل المثقف الذى دخل الشعر فى صميم تكوينه الوجدانى، وإن لم يستشهد دائمًا بأبيات الشعر- كما كان يفعل الأستاذ هيكل مثلًا - على أن ذاكرته تسعفه فى استحضار بعض وقائع - لابد أنه كان يرويها كثيرًا - لفترات باكرة من عمره، فهو فى صدد حديثه الشائق عن المرحلة الجامعية كان معجبًا بأستاذه الدكتور عبدالقادر عودة، ويفخر بأنه كان دائمًا رئيس اتحاد الطلاب، وفوجئ ذات يوم بأن الدكتور عودة يقول عنه فى المحاضرة: لقد أصبح زميلكم مصطفى الفقى يعمل خاطبة، إذ حاول التوسط لدى إحدى زميلاته الجميلات - ولم يشأ أن يذكر اسمها - عام 1965 كى تقبل الاقتران بمدرس شاب عاد من بعثته فى الخارج، ولم يذكره أيضًا تفاديًا للحرج، فالدبلوماسية تتغلب على صراحة الأدب. والواقع أن لهذه الحادثة دلالة أخرى أصيلة عند الكاتب وهى أنه شهم وخدوم ويتطوع للخير طيلة حياته، حتى ولو كان ذلك فى الشؤون العاطفية الحساسة.
وتتجلى قدراته الأدبية فى التقاط التفاصيل الحية المعبرة، فهو لا ينسى مثلًا فترة تدريبه فى المعهد الدبلوماسى الذى أصبح بعد ذلك مديرًا له، وكيف كان خبير المراسم القادم من القصور الملكية يعلمهم «الإتيكيت» وآداب المائدة الدبلوماسية و«هم أبناء الطبقة الوسطى القادمون من أعماق الريف، لأنه وجد معظمهم يقطعون الخبز ويجعلونه (أذن القطة) عندما جاءت أطباق الملوخية، فقال لهم: يا حضرات، ليس هذا أسلوبًا للموائد، فأنت ترشف بالملعقة قليلًا ثم تتبعها بقطعة خبز، بدلًا من طريقة المصاطب التى لا تصلح أمام الأجانب، ولاحظ أن أحد الزملاء يدخل ملعقة الأرز إلى أعماق فمه، فقال له: أخشى أن تخرج الملعقة باللوزتين، ولما رآه شديد النهم فى الطعام، نصحه بأن يأكل فى بيته أولًا قبل أن يذهب إلى العشاء الرسمى».. وهذا ما لا تزال نساء الدبلوماسيين يفعلنه حتى اليوم بانتظام. ولا يفوت الكاتب أن يوجز دلالة هذا التحول الطبقى الذى أحدثته ثورة 52، إذ يرصد مشهد المدرب وهو يتطلع إلى سقف الحجرة فى نهاية الأمسية ويقول لنفسه: «كم تغيرت كثيرًا يا مصر!» لهذا الحراك الطبقى الملموس.
وعندما التحق الفقى بالعمل فى السفارة المصرية فى لندن وتشرب الفوارق الحضارية الدقيقة، وأخذ يتأمل مفارقاتها ويستخلص من ذلك عددًا من المعانى المهمة، من أبرزها مثلًا أن «الواسطة» وهى أمر ذائع الانتشار فى بلادنا «وأنا شخصيًا أتلقى يوميًا عدة مكالمات من طالبى الوساطة للتعيين أو الترقية أو حل مشكلة معينة، وأكتشف أن أصحاب الحالات لم ينتهجوا الطريق الطبيعى واستسهلوا اللجوء مباشرة إلى الواسطة لفقدهم الثقة.. أرى أن البريطانيين يسجلون ذلك مباشرة فى طلب الوظائف ولكن تحت مسمى آخر هو المرجع (Refrance)، لأنهم يريدون أن يعرفوا أهم من يوثق فى معلوماته عنك»، فلكل ثقافة وسائلها فى تحقيق الغايات المرجوة. ولقد نضجت خبرة الكاتب العميقة بالثقافات التى احتك بها فى الشرق والغرب خلال تجواله وتأملاته، مما جعل قراءته لا تمثل متعة حضارية فحسب، بل درس فلسفى عميق عاشق للحياة وبصير بمسارات الأقدار فيها.
ومن أهم المحطات التى أثرت فى شخصية مصطفى الفقى فترة عمله بالهند، وهى ذات حضارة باهرة، أذكر أننى فترة عملى بالمكسيك فى كليتها للدراسات العليا كنت أجالس شاعرهم العظيم «أوكتافيوباث»، الذى حصل على نوبل فيحكى لى عن عظمة الحضارات القديمة فى المكسيك وتأثره الشديد بها ويحسدنى على أننى أنتمى لحضارة مماثلة فى مصر، ويعرض لنا الكاتب بعض الطرائف اللاذعة التى شهدها فى المكسيك، منها مثلًا لقاؤه هناك بالمقرئ المبدع الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وكيف أن الجمهور من شدة إعجابهم بتلاوته كانوا يجهشون بالبكاء، فأهدوا له جلد نمر محنطًا رائع الجمال «سألنى الشيخ عن ثمنه فقلت له إنه لا يقل عن عشرة آلاف روبية، أى ألف دولار، فمد الشيخ فى قراءته نصف ساعة مكافأة للمستمعين على كرمهم معه». وكذلك يورد الدكتور مصطفى بعض ملاحظاته النقدية بأدب شديد عن الآخرين ولا يفوته أن يمارس النقد الذاتى، فيعترف مثلًا بأنه كثيرًا ما يغلق جفنيه فيبدو نائمًا خلال الجلسات المطولة، ومنها جلسة مع فريق الدفاع عن حق مصر فى طابا حتى نبهه لذلك الدكتور وحيد رأفت، ويبرر ذلك بأن هناك الكثيرين ممن يفعلون ذلك، وفاته أن يستشهد بقول الشاعر العربى القديم فى ممدوحه:
«ينام بإحدى مقلتيه ويتقى/ بأخرى المنايا فهو يقظان نائم».
ولما كانت المرحلة الذهبية فى حياته هى فترة عمله فى الرئاسة مع مبارك ثمانى سنوات فهى المصدر الثرّ لمئات الحكايات، وهو لم يقصر فى إذاعة كثير من أسرارها المسموح بالحديث عنها، وخاصة بعد ثورة يناير، ثم حاول أن يتحرى الصدق الموجع أحيانًا فى بعضها مثل قصة ولعه بأكل البطيخ وكيف أجبره الرئيس على التهام بطيخة كاملة ليسمح له بقضاء العطلة مع أسرته فقضاها فى المستشفى، ويوجز الفقى حادثة خروجه من الرئاسة دون تحريف، كما يوجز حوادث مؤلمة له مثل خروجه من لجنة قيادات الحزب أيام جمال وإعفائه من منصبه فى المجلس القومى للمرأة، لكنه أشاد دائمًا بأن علاقته بالقصر- التى تنبأت له بها عرافة فى الهند ففهم منها أنه سيمرض ويدخل قصر العينى- ظلت موصولة ومحفوظة، وإن لم يفصل دوره فى صياغة الخطب الرئاسية وبعض الدقائق التى تظل من أسرار الدولة العميقة التى يعرف مصطفى الفقى كيف يحافظ عليها بدهاء مدهش، وتسعفه ملكة الرواية فى كشف ما لا خطر فيه من تفاصيل حياته مع مبارك مع تخصيصه لفصل كامل فى نقد سياساته واحترام شخصيته فى الآن ذاته، فلا يأخذ عليه أنه كان يتعمد إخافته بالكلب الشرس الذى يصحبه.
ويروى بعد ذلك بأناقة شديدة تفاصيل ترشيحه بعد الثورة لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، وكيف كان مهيئًا لذلك لولا معارضة قطر والسودان، ويفرد صفحات أخرى مطولة لمعاودة إشباع لذته فى رسم صور الشخصيات السياسية والعسكرية والثقافية وتجاربه معهم على طريقته الموسوعية الأثيرة، حتى يصل إلى توليه مسؤولية إدارة مكتبة الإسكندرية، وكيف لعب دورًا خطيرًا فى مرحلة تأسيسها المبكرة، ويفرد فصولًا خاصة لتجربته فى النمسا عندما كان سفيرًا ينعم بالموسيقى والفن والجمال فى ربوع فيينا، ولا يترك شاردة ولا واردة فى حياته دون أن يتعرض لها بالتفصيل وباللمحات الخاطفة مرة أخرى قبل أن يختم روايته ببعض التأملات الفكرية العميقة، وإذا كان بعض من كتبوا سيرهم الذاتية توهموا أنهم يسجلون صفحات من تاريخ أوطانهم لتضخم إحساسهم بذواتهم، فإن مصطفى الفقى بأدبه وتواضعه واعتماده على الصدق والموضوعية هو الذى قدم صورة ناطقة لملامح وطنه فى مرآة ذاته، مبرزًا موقعه الحضارى وعلاقاته بالأمم الأخرى فى كتاب حظى وسيحظى بأهمية استثنائية فى تراجم الأعلام وسير التاريخ الموثق للحياة المصرية المعاصرة.
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2255052