تلقيت اتصالًا تليفونيًا كريمًا من واحد من أساتذتنا في الدبلوماسية المصرية هو السفير يحيى رفعت (91 عامًا) وقد كان شقيقه الراحل السفير عز الدين رفعت مشرفًا على بحث تخرجي من المعهد الدبلوماسي عام 1969 وكان بعنوان (إرهاصات الوفاق بين الكتلتين وتأثيرها على مشكلة الشرق الأوسط)، كذلك فإن ابنه الشاب كان في السلك الدبلوماسي أيضًا وهو السفير شريف رفعت الذي بلغ سن التقاعد هو الآخر مؤخرًا، وكان مضمون المكالمة الكريمة من ذلك السفير المحترم هو تعليق له على فقرة في كتابي (الرواية.. رحلة الزمان والمكان) حول حادث أكيلي لاورو الذي وقع في منتصف ثمانينيات القرن الماضي عندما اختطفت مجموعة من الفلسطينيين سفينة في عرض البحر وألقوا بأمريكي قعيد على كرسي متحرك في قاع المياه، ولأن المركب كان أمريكي الجنسية فقد قامت واشنطن ولم تقعد وجرت اتصالات عنيفة حتى أن السفير الأمريكي في القاهرة فليوتس أثناء زيارته لبورسعيد متفقدًا السفينة الأمريكية الراسية في الميناء هناك سب المصريين علنًا بعبارات نابية، وكنت وقتها سكرتيرًا للرئيس الراحل مبارك للمعلومات الذي كان يستطلع رأي كبار مستشاريه في كيفية التعامل مع الأزمة الطارئة التي فرضت نفسها على العلاقات المصرية الأمريكية، وكان رأي المشير الراحل أبو غزالة كما قاله لي شخصيًا لإبلاغ الرئيس هو أن نقوم بتسليم الفلسطينيين الذين ارتكبوا تلك الجريمة إلى الجانب الأمريكي لأنها وقعت على أرض أمريكية هي السفينة أكيلي لاورو في عرض البحر، وقد استهجن الرئيس مبارك يومها ذلك الاقتراح واعتبره استفزازًا يمكن أن يجر علينا موجات من العنف قد تمارسها بعض الفصائل الفلسطينية ضد مصر، ورأى أن يتم تسليم الجناة إلى قيادتهم الشرعية في تونس حيث كان مقر المنظمة الفلسطينية بقيادة الراحل ياسر عرفات هناك، وبالفعل جرى تجهيز طائرة للتحليق بهم إلى تونس دون إخطار الجانب الأمريكي بذلك لأن السفينة راسية في ميناء مصري والجناة في قبضة السلطات المصرية وقيادتهم الشرعية أحق بمحاكمتهم من غيرها، وقد طلب مني الرئيس الراحل أن اتصل بالسفير محب السمرة سفيرنا في تونس - أطال الله في عمره – لكي أبلغه بما تقرر من نقل العناصر الفلسطينية بقيادة أبو العباس إلى تونس العاصمة وتسليمهم لقيادة المنظمة، وكانت أجهزة الرصد الأمريكية تتابع الاتصالات التليفونية في عرض البحر المتوسط وتترقب القرار المصري والتصرف بالعناصر الفلسطينية المتهمة، وبالفعل جرى اعتراض الطائرة في عرض البحر وإجبارها على الهبوط في أحد القواعد العسكرية التابعة للأطلنطي جنوب إيطاليا وكان الاتصال مستمرًا بين الرئيس الراحل والسفير يحيى رفعت في روما بمتابعة مباشرة من الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية حينذاك، وقد طلب الرئيس مبارك من سلطات الطيران إصدار الأمر لقائد الطائرة المخطوفة في عرض البحر بالرضوخ للطيران الأمريكي الذي يحيط به وتكاد تلامس إحدى عجلاته سطح الطائرة المصرية والهبوط في تلك القاعدة الأمريكية تفاديًا لكارثة مروعة في الجو، ولقد قام السفير يحيى رفعت باتصالات مباشرة مع السيد بتينو كراكسي رئيس الوزراء الإيطالي الذي أبدى تجاوبًا شديدًا مع مصر وتعاطفًا مع موقف القاهرة فيما كانت تنوي أن تفعله، وبعد مباحثات مضنية بين الإيطاليين والأمريكان حلقت الطائرة من القاعدة العسكرية في جنوب إيطاليا إلى مطار العاصمة روما في حراسة مشددة إيطالية وأمريكية، وطلب السفير يحيى رفعت وقتها من الفنان فاروق حسني مدير الأكاديمية المصرية في روما أن يدبر الإقامة للخمسة الخاطفين الفلسطينيين ولاثنين من الحراسة المصرية، وبالفعل وفر لهم الفنان فاروق حسني – الذي أصبح وزيرًا للثقافة فيما بعد – مكانًا للمبيت في مبنى الأكاديمية مع إعاشة مناسبة للوجبات وغيرها، وفي غضون تلك الأزمة وصف الرئيس الأمريكي ريجان الرئيس المصري مبارك وصفًا غير لائق واتهمه بأنه كذاب، وقد عقد الرئيس مبارك - رحمه الله - مؤتمرًا صحفيًا رد فيه على الرئيس الأمريكي وتوترت العلاقات بين واشنطن والقاهرة حتى أن الرئيس المصري ألغى زيارته الدورية السنوية لواشنطن لمدة عامين متتاليين ردًا على الموقف الأمريكي من تصرف مصر الذي كانت تسعى من خلاله إلى سحب فتيل الأزمة ووضع الجناة أمام قاضيهم الطبيعي وهو قيادتهم في تونس، ولقد كان دور السفير يحيى رفعت ناجحًا إلى حد كبير بسبب هدوئه المعهود ودبلوماسيته الراقية كما أن اقتراحه بطلب المساعدة من الفنان فاروق حسني باستضافة المجموعة قد حل إشكالًا أمنيًا أمام الطليان والأمريكان في ذلك الوقت، وأنا أسوق هذه السطور تأكيدًا للوقائع التاريخية الصحيحة وإحساسًا بالدور الوطني للدبلوماسية المصرية وجناحها الثقافي في أزمة عابرة ألقت بظلالها على العلاقات المصرية الأمريكية منذ أكثر من خمس وثلاثين عامًا.
هكذا هي العلاقات بين الدول صعود وهبوط، واقتراب وابتعاد ولكن حكمة مصر تدفعها دائمًا إلى نوع من التوازن في علاقاتها الدولية والإقليمية وفتح الأبواب مع كل الأطراف بغير استثناء مع التزام بالثوابت التي قطعتها مصر على نفسها تجاه الشعب الفلسطيني الذي يجب أن تتوحد صفوفه، وأن تلتقي كلمته، وأن يدرك المتغيرات الدولية والتطورات الإقليمية بوعي ووطنية، ووضوح في الرؤية، وإيمان بواقعية الأهداف التي يسعى لتحقيقها والغايات التي يطلبها في دولة مستقلة على ترابه الوطني.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 16 فبراير 2021.