أفرز عام الكورونا تغييرات جوهرية فى الاقتصاد العالمى، وتصدرت صناعة الأدوية المشهد، لأن مبيعات المنظفات والمطهرات واللقاحات أصبحت هى سيدة الموقف، ولقد كنا نتحدث كثيرًا من قبل عما نسميه «مافيا تجارة السلاح» فإذا هناك ما يسمح الآن بأن نتحدث عن «مافيا تجارة الأدوية» حتى أصبحتُ أحيانًا أشك فى أن القرار السياسى فى الدول الكبرى يتلون وفقًا لمصالح تلك الشركات الاحتكارية، وفى مقدمتها شركات الأدوية، وأظن أن موضوع اللقاحات فى تنوعها وتعددها هو منافسة غامضة بين شركات الدواء وفقًا لمصالح اقتصادية بالدرجة الأولى، وليس يعنى ذلك أننا نصم كل شركات الأدوية فى العالم بسوء النية والاعتماد على الممارسات الاحتكارية، ولكن لا يختلف الكثيرون معنا فى أن هناك شعورًا عامًا يُوحى بأن بعض شركات الأدوية قد توحشت وأصبحت مراكز ضغط قوى على أعصاب النظم، خصوصًا فى الدول المتقدمة صناعيًا أو المتطورة تقنيًا، فأصبحنا نشهد أحيانًا بعض المواقف العبثية عند اختفاء دواء معين أو تأجيل إنزال أحد التطعيمات إلى العامة اعتمادًا على النظرية الكريهة فى علم الاقتصاد وهى تلك التى تتحدث عن (تعطيش السوق)، ولكنها فى هذه الحالة هى سوق المرضى والاتجار بمعاناة البشر، ولا تقتصر الممارسات الاحتكارية بالطبع على شركات الأدوية وحدها بل إن هناك شركات موازية بعضها يتمسح فيما يسميه عالم الفيتامينات والإجراءات الوقائية والأدوية الاحترازية، والخائف دائمًا من وباء كاسح يدفع بلا تردد ويعطى بغير حساب! ولنا هنا بعض الملاحظات على المستوى الوطنى إذ إنه على الصعيد العالمى تبدو الأمور واضحة، ولكننا نحتاج فى مصر إلى مراجعة أمينة لصناعة الدواء فى بلادنا، ومنها:
أولًا: إن تاريخ صناعة الأدوية فى مصر الحديثة قد بدأ بشكل بدائى مع مطلع القرن الماضى، ثم تطور فى العصر الناصرى بظهور شركات حكومية تعمل فى هذا القطاع، حيث بدأ الدواء المصرى يزاحم نظيره الأجنبى على استحياء فى البداية، ثم بدأت مقارنة الأسعار التى تصب فى صالح الدواء المصنع فى مصر تمارس دورها، وتعطى للمنتج المصرى قيمته ومكانته، وظهر واحد من رواد هذه الصناعة وهو الدكتور عبده سلام الذى كان رئيسًا لإحدى شركات الأدوية المصرية، ثم أصبح وزيًرا للصحة فى آخر حكومات الزعيم المصرى جمال عبدالناصر قبل رحيله مباشرة، وهو الذى أشرف على الجانب الإجرائى والطبى فى مراسم دفن الزعيم.
ثانيًا: لقد اجتاحت الأوبئة مصر فى القرن العشرين وقبله كغيرها من دول العالم، فعرفت فى القرن الماضى وحده أمراض «الدرن» و«الكوليرا» و«التيفود»، وقد فقدتُ شقيقًا لى بسبب ذلك المرض الأخير فى منتصف أربعينيات القرن الماضى حتى تنبهت الدولة إلى الثورة التى طرأت على عالم الدواء، وأنتجت تلك الثورة البنسلين والمضادات الحيوية وتوابعها التى أنقذت البشرية من السقوط الكامل فى مستنقع الأوبئة الذى كان يبتلع البشر ويحصد الأرواح.
ثالثًا: لقد اكتشف المصريون فى منتصف القرن الماضى أن صناعة الدواء فى بلادهم قد بدأت تتطور بشكل ملحوظ، وأصبح الدواء المصرى منافسًا قويًا للدواء المستورد من الخارج، خصوصًا أن الفارق فى السعر بينهما يصب تمامًا فى صالح الدواء المصرى ويجعله فى متناول المريض الفقير، ثم بدأت هجمة واضحة بتهريب الدواء المصرى للدول الإفريقية والعربية فى ظل المنافسة القوية التى يتمتع بها الدواء المصرى وتعطيه ميزات لا تقل عن الأدوية العالمية المعروفة، وقد أدى ذلك إلى شيوع عمليات تهريب الأدوية المصرية مما يحقق مكاسب كبيرة.
رابعًا: إن صناعة الدواء صناعة استراتيجية تتصل بالوقاية والعلاج معًا، والاهتمام بها «فرض عين» على كل الحكومات فى مختلف الأنظمة، لأن المريض الذى يتلهف على الدواء هو أشد معاناة من الفقير الذى يتطلع للغذاء، ويكفى أن نتصور الحالة التى يعانى منها بعض أصحاب الأمراض المستعصية عندما يفتقدون الدواء الأساس لحالاتهم الصعبة، خصوصًا أن سعر الدواء الأجنبى قد أصبح باهظًا. إن صناعة الدواء أصبحت مظهرًا من مظاهر التقدم، لذلك فإن اهتمام الحكومة المصرية الحالية بتوفير الدواء للمواطن المصرى هو إنجاز سياسى قبل أن يكون طبيًا أو صحيًا، فالوقاية والعلاج يعتمدان معًا على أدوية متطورة وإجراءات حديثة فى مواجهة الأوبئة التى لا تبدو أنها سوف ترحل قريبًا، بل لعلها تعاود الكَرَّة أكثر من مرة.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2259617