يتملّكنى التردد فى أن أكتب عن المذكرات الذاتية، التى يتفضل أفاضل مرموقون بإهدائى إياها، أو تلك التى أسمع عن إصدارها، فأسعى لشرائها. ومصدر التردد أمران، الأول ينطبق عليه المثل الشعبى «يموت الزمار وأصابعه تلعب»، إذ مازلت متأثرًا، بل متشبعًا بدراستى الجامعية فى مرحلتى الليسانس والدراسات العليا للتاريخ الحديث والمعاصر، تلك التى تعلمت فيها أن ألف باء التعامل مع «المذكرات»، باعتبارها مصدرًا للتاريخ، هو التدقيق فى تفاصيلها، ونقدها من داخلها ومن خارجها، وقراءتها على ضوء قراءة مذكرات وشهادات أخرى لمعاصرين شاركوا الأحداث نفسها، وتبيُّن نقاط الاتفاق والاختلاف والإخفاء والتورية والتجاهل، ناهيك عن ضرورة الرجوع إلى مصادر أخرى كالوثائق.
ولا أخفى أننى- ومنذ أسابيع طويلة- أستعد للكتابة عن الكتاب الثانى من مذكرات السيد أحمد أبوالغيط، وزير الخارجية الأسبق، الأمين العام الحالى للجامعة العربية، وهو كتاب «شاهد على الحرب والسلام»، بعد أن كتبت عن كتابه الأول «شهادتى»، وقد وجدت نفسى أمام تفاصيل هائلة يرويها الشاهد على الحرب والسلام، وفيها أسماء عديدة كمحمد حافظ إسماعيل، وأحمد ماهر السيد، والدكتور خلاف.
ولأننى «زمار تاريخ» فقد اتجهت من فورى إلى البحث عن مذكرات تلك الأسماء، ووجدت فى مكتبتى مذكرات السيد محمد حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومى، ومذكرات محمد إبراهيم كامل، وزير الخارجية، الذى شارك فى مفاوضات السلام، ولم أجد مذكرات للسيد السفير أحمد ماهر السيد.. وكم هو مُنْهِك لمثلى- فى ظروف تتضمن فوبيا الكورونا، وتأثير ثلاثة أرباع القرن التى عشتها، والسعى الذى مازال مستمرًا لتأمين المعيشة، إذ مازلت أعمل أجيرًا لدى آخرين من أصحاب الصحف- مُنْهِك أن ألتزم بمناهج البحث، وأن أدقق، حتى لو كان السبب من وراء ذلك أننى أريد أن أختلف عن آخرين يتلقون المذكرات مُهداة- كما تلقيتها- أو مُشتراة، وجوهر الاختلاف يكمن فى ضرورة الحوار مع المادة المنشورة فى المذكرات وفق أبسط القواعد المنهجية، لأن السهل المتاح للجميع هو أن تتم قراءة المقدمة والخاتمة والفهرس، والمرور بعين عابرة على الصفحات لالتقاط طرفة من هنا ونادرة من هناك، وشاردة شردت من صاحب المذكرات دون أن ينتبه، ثم تطعيم الكتابة بما يوهم قارئ الصحيفة بأنها كتابة نقدية تتضمن مواقف جدية، وتتم سباكة هذا كله فى مقال صحفى لينزاح عبء رد الهدية، و«يا دار ما دخلك شر».
أما الأمر الثانى، من وراء ترددى، فهو ما يصدق فيه وعليه المثل الشعبى الآخر «مَن تلسعه المرقة ينفخ فى الزبادى»، ذلك أننى ظللت فترة طويلة، أعقبت المقالات التى كتبتها فى «المصرى اليوم»، أناقش فيها الجزء الأول من مذكرات السيد السفير عمرو موسى، وزير الخارجية، الأمين العام للجامعة العربية الأسبق، أعانى من «اللسعة» التى جلبتها على نفسى، إذ لم يرضَ صاحب المذكرات عن مقال من المقالات، واعتبره هجومًا، بل سبابًا، وحاولت- قدر جهدى- أن أوضح قواعد مناهج البحث، بل أن أعتذر، إلى أن تفضّل الرجل وتعامل بلطف، وبما معناه أن الأمر قد انتهى.. وكنت بينى وبين نفسى- التى كثيرًا ما يدور بيننا حوار ساخن- أقول: «أنا اللى بجيبه لنفسى.. إنت مالك.. ما تعمل مثل الباقيين ولا تجعل أحدًا يزعل أو يأخذ على خاطره.. ثم إنها مقالات صحفية مصيرها أنت تعلمه إما على طبلية أو مائدة سفرة أو تحت أقدام دجاج.. أو لتلميع زجاج.. ولماذا تجعل الأمر يُحبَك عليك، على رأى صلاح منصور وهو يَحْتَجّ على رذالة زوجته الأولى سناء جميل: هى حبكت الليلة دى؟»!!
ولا أدرى متى أترجم القراءات المرتبطة بـ«شاهد على الحرب والسلام» لأكتب المحصلة، خاصة أن صاحبها السيد أحمد أبوالغيط قارئ محترف ونَهِم، ولديه رصيد هائل من المعرفة العلمية بكل ما يتصل بالاستراتيجية والحروب والأسلحة، ومن ثَمَّ التاريخ، ناهيك عن أنه من أشد المعجبين بفيلسوف التاريخ، أرنولد توينبى، وقرأ موسوعته «دراسة التاريخ»، وكانت كتابتى ذات مرة عن «توينبى» هى البوابة التى تواصلنا عبرها.
ثم إننى الآن أواصل القراءة المتأنية لمذكرات السفير الدكتور مصطفى الفقى، التى عنونها «الرواية.. رحلة الزمان والمكان»، ووجدت النموذج الذى يسعى إليه كل مَن له قلم، وهو أن يكتب كما يتكلم.. ويتكلم ليراه الناس ببصرهم وبصائرهم لأنه ليس لديه أكثر من خطاب وليس لديه ما يُخفيه أو يُخيفه، يعنى «رأس بلا بطحة»!
وليست مصادفة فى السياق ذاته أن يشعر قارئ مذكرات الدكتور مصطفى- خاصة مَن التقوا به واقتربوا منه وعرفوه- أنه يجلس إليه ويسمعه ويتمنى عليه أن يُطيل ويستطرد، وأن يبوح بكل ما لديه، ولا يترك شيئًا لبديهة السامع.. الذى هو القارئ.
إنك وأنت مع سطور «الرواية.. رحلة الزمان والمكان» تجد الرجل الذى تعرفه.. الحريص على عدم إغضاب أحد.. يعنى مادام كل البشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.. ولا أحد مُبرَّأ من النقص.. ولكل ظاهرة ظرفها الزمانى والمكانى، وأن الموضوعية النسبية هى أن تقرأ الظواهر وتُقيِّمها وفق ظروفها ومقدماتها ومساراتها، فإن الكل «كويسين».. ولا غضاضة فى إبراز المحاسن. ثم إنها «حبكت» معى مرة أخرى، إذ لم أكد أنتهى من صفحات تتحدث عن النشأة إلا ووجدت أصابع الزمار تمتد إلى الخطط التوفيقية ومعاجم البلدان، وتنقر على «جوجل» مرات بعد مرات لمزيد من معرفة بعض الأعلام الذين ذكرهم الدكتور مصطفى، وفى المقدمة المغازى باشا.. وللحديث صلة.
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2259717