«لن أسمح لمشاعرى الشخصية بأن تطغى على الحقيقة، ولن أتيح للهوى الإنسانى من حب وكراهية أن يلون المشاهد، ليرفع من يشاء ويسىء لمن يريد، إذ ليست لدى عقد أعانى منها، أو تقلصات أتلوى بها، بل إن مسئوليتى أمام نفسى تحتم علىَّ أن أكون موضوعياً مجرداً نزيهاً، شريف الكلمة، صادق العبارة، وسوف أتجنب بالضرورة كل ما يؤدى إلى تجريح الآخر أو الإساءة للغير بما لا يسكت الحقيقة ولا يجمل الواقع».
منذ البداية يضع د. مصطفى الفقى دستورا واضحا ومحددا، واضح البنود، محدد العبارة، تسير عليه سيرته المكتوبة فى كتاب بعنوان: «الرواية.. رحلة الزمان والمكان»، الصادر عن الدار المصرية ـ اللبنانية، وطوال الـ 500 صفحة التى هى عدد صفحات الكتاب، التزم د. الفقى بما ارتضاه لنفسه من قيم أخلاقية فى تناول الأحداث والشخصيات التى شكلت زخم حياته، وتفاصيل رحلته، ولونت مسيرة حياة كانت ولا تزال نضالا مستمرا من أجل قيمة أعلى هى «الوطن»، وجوهرة أسمى هى:«مصر». كانت مصر هى الراية والشعار، الغاية والطريق، فى كل ما خط وفكر وعمل مصطفى الفقى، قادته أخلاق الجنود وشجاعة القادة، وهداه عقل المفكر، وعصمه من الزلل، أو الوقوع فى المبالغة، نحى مشاعره واستسلم لفيض النهر الزاخر بالأحداث فكانت هذه الرحلة وهذه الرواية ـ السيرة.
سيرة ومسيرة د. مصطفى الفقى، كما كل سيرة حقيقية أخرى، تعد أهم مصدر من مصادر كتابة التاريخ، الوقائع والأحداث والشخصيات بلسان من تيقن رأى العين، وشاهد الحدث وشارك فيه، وفى رحلة زمان ومكان الفقى صورة كاملة لنصف قرن فى السياسة والحياة المصرية، ثقافة واجتماعا، شخصيات فاعلة وأخرى خاملة، كتبت تكريما لذاتها، ودلالة على واقعها، راعى د. الفقى فى الكتابة قيم الموضوعية التى ألزم بها نفسه وجعلها صراطا لا يحيد عنه.
وكتابة الرحلة، فى عمل مكتمل، كانت هما شاغلاً فى ذهن مصطفى الفقى ظهرت بوادرها كثيرا قبل ذلك فى بعض الكتب السابقة مثل:«لقطات العمر»، و«شخصيات على الطريق»، و«عرفتهم عن قرب»، قبل أن تلتئم فى عمل كبير مثل:«الرواية.. رحلة الزمان والمكان»، وكأن التاريخ لكل ما جرى لا يبرح ذهن الكاتب، لأن لديه ما يقوله، وما يشهد عليه، وما يستحق أن يروى، وكل ذات لديها حكايتها، والفقى لم يكتب حكايته فقط، بل حكايات الآخرين، وقصصهم، وكلها معا شكلت جزءا من تاريخ الوطن، يوضع الآن فى أيدى الأجيال الجديدة رغبة فى الإخبار والشهادة، رغبة فى خدمة الحقائق فى مواجهة الأباطيل، وتخليص الوقائع من كل ما يحيطها، وليس رغبة فى تفخيم دور الذات أو إظهار محوريتها.
على أن دور الذات الفردية، ليس هينا فى كتابة التاريخ، عندما تكون مسئولا فقرارك لا يخص ذاتك، وكل الأحداث الكبرى فى التاريخ صنعها أشخاص، وذلك أحد الدروس التى تخرج بها من قراءة سيرة مصطفى الفقى، وسوف تتوقف طويلا أمام فصلى:«لقاءات برموز السلطة فى العالم العربى»، و«فى صحبة نجوم الفكر والأدب والفن»، لتعرف أهمية دور الأفراد فى مسيرة أوطانهم وصنع مسيرتها، فى صنع سياستها وثقافتها، فى خلق روحها الخاصة وطريقتها المحددة، ويرصد د.الفقى واقعة مهمة فى هذا السياق تظهر هذه الفكرة، فعندما ذهب عدد من الضباط الأحرار ـ لم يكن بينهم جمال عبد الناصر ـ ليقابل الملك عبد العزيز، وبعد الاجتماع سأل الأمراء ملكهم عن رأيه فى من قابلهم من الثوار فقال لهم:
قائد الثورة الحقيقى ليس فى المجموعة التى جاءتنى، وإحساسى أن اللواء محمد نجيب، مجرد قائد شكلى، لأنهم لم يكونوا قادرين على اتخاذ قرارات نهائية فى موضوعات معينة، ونحن نناقشها، وينتظرون العودة إلى طرف أهم. يقول مصطفى الفقى: وكانت الإشارة واضحة إلى شخص جمال عبد الناصر.
إذا كان مصطفى الفقى لا يشير مباشرة إلى أهمية دور الفرد فى صناعة التاريخ، فإن المعنى يرشح من بين السطور، ويكاد ينطق فى بعضها الآخر، فالمقاطعة العربية لمصر عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1979م، كانت بضغط رهيب من الرئيس العراقى وقتها: صدام حسين، وبقرار شخصى منه، الأمر الذى ترتبت عليه نتائج كبيرة، لم تظهر آثارها إلا بعد ذلك بعشرات السنين، وكانت نتائج فارقة فى تاريخ العرب، وخرق هذه المقاطعة نفسها جاء بقرار من الملك حسين عاهل الأردن، وهكذا عشرات الوقائع والأحداث تؤكد أهمية دور الفرد فى صنع تاريخ أمته.
وعلى ذكر صدام حسين، يضع د. مصطفى الفقى تلك الشخصية صدام حسين، فى مقابلة مع شخصية الرئيس السادات، مقابلة موضوعية ليظهر المعنى من خلال التناقض بين الشخصيتين فصدام حاد، انفعالى، والسادات هادىء منضبط الأفكار، وهى آلية فى الكتابة، وبضدها تتميز الأشياء، فبرغم أن الرئيس الراحل محمد أنور السادات ـ كما يحكى د. مصطفى الفقى ـ فتح مخازن السلاح المصرى للرئيس العراقى صدام حسين من أجل الصمود فى حربه ضد إيران، فإن ـ هكذا والصحيح فإن ـ صدام كان يقول: إن السادات يبيع لنا السلاح كأى تاجر، لكن لا يدعمنا، وليست لنا علاقة به.
على أننى لا أريد الاستطراد فى هذه النقطة الخاصة بمسيرة الأمم ودور الأفراد، وهى نظرية فى السياسة لها وجاهتها، فى علم النفس السياسى منذ أن كتب توماس كارليل كتابه المهم «الأبطال»، لأن كتاب د. الفقى وسيرته الذاتية، «الرواية.. رحلة الزمان والمكان»، فيها الكثير من الجوانب والحكايات التى تستحق التوقف والكتابة عنها مثل: فى مقر الرئاسة.. ثمانية أعوام مع مبارك، على أن أميز ما فى هذا الفصل هو معرفة كيف كان يفكر الرئيس مبارك، وكيف كانت مشاعره تقوده أحيانا فى اتخاذ بعض القرارات، من ذلك ما يرويه مصطفى الفقى عن الطريقة التى غادر بها د. صوفى أبو طالب الحياة النيابية، يقول الفقى: وبالفعل ذهبت فى اليوم التالى لمقابلة الرئيس، فبادرنى قائلا: ملامح وجهك أصغر من عمرك الذى أبلغتنى به، وخطاب البرلمان أثار إعجابى، لذلك أرغب منك فى كتابة فقرة تكريم شكلية لرئيس مجلس النواب صوفى أبو طالب، لأننى أنتوى تغييره، ويضيف الفقى: وكانت مشاعر الرئيس تجاه الدكتور صوفى أبو طالب سلبية، ووجد أن يكتفى الرجل بهذا الحد ويحال للتقاعد.
وفى هذا الفصل أيضا، يكتب الفقى رأيه فى الرئيس مبارك بوضوح، وهو رأى من رآه عن قرب، وشهادة للتاريخ، فهو يرى أنه إنسان صلب وقوى، وفى ذات الوقت بسيط للغاية، ويمكن مناقشته فى كل الأمور شريطة الجدية والإلمام الكامل بالموضوع، وقد كان يوقر القيادات التى عمل معها مثل الفريق مدكور أبو العز، والفريق على بغدادى، وغيرهما من قيادات الطيران، كما يكشف هذا الفصل لماذا توقف برنامج مصر النووى، والحكاية كما يرويها د. مصطفى الفقى هكذا:
فى بداية عملى معه كلفنى الرئيس مبارك بدراسة عروض من شركات ألمانية وأمريكية لإنشاء محطات نووية فى مصر، وبالفعل كتبت له مزايا كل عرض، وترتب على ذلك عقد عدة اجتماعات بمدينة الإسكندرية لكل القيادات العلمية المختلفة، من بينهم علماء الطاقة الذرية ووزيرا الكهرباء والبيئة، وأيضا السفير صلاح إبراهيم، لأنه كان مفتشا فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بجنيف، وكان هناك فريقان: الأول موافق ويؤكد أن نسبة كبيرة جدا من الطاقة فى فرنسا مستمدة من الطاقة النووية، والآخر رافض لأسباب أهمها الأمان النووى والتكاليف الباهظة لبناء محطات نووية واتخذ مبارك قراره بالرفض، وعقب ذلك وقع حادث التسريب النووى فى الاتحاد السوفيتى «تشرنوبيل» وتسبب فى إصابات خطيرة، وخلف ضحايا كثيرين، لذلك توقفت الدراسات، وتراجعت فكرة إنشاء محطة نووية فى ذلك الوقت.
قلنا إن رحلة مصطفى الفقى تحتوى على العديد من الحكايات والأسرار، وتزخر بالعديد من الدروس، والمحطات التى تستحق التوقف أمامها بعناية، وفى العموم، فإن هذه الرحلة علامة على صاحبها، وصاحبها علامة على نصف قرن من العمل السياسى والنضال الوطنى، والحراك الثقافى والفنى، ولا يفوتنا فى النهاية أن نشير إلى الروح الفكاهية التى نضجت فى بعض المواقف، وروح الدعابة التى كان يتسم بها د. الفقى، وفى أحد المواقف يروى ما دار بينه وبين الرئيس مبارك فى الحرم المكى الشريف، حينما دخلا الكعبة، يقول الفقى: وصلينا فى ثلاثة أركانها، ولم يبق إلا الركن الرابع الذى كان يصلى فيه عم علوانى، وهو أحد السفرجية الذى يعد الشاى والقهوة، وانتظرنا جميعا ومعنا الرئيس مبارك حتى يفرغ عم علوانى من صلاته لكى نصلى، فقلت للرئيس مبارك:«هل ترى يا سيادة الرئيس فلسفة الإسلام، فسيادتك تنتظر عامل الشاى والقهوة لكى تفعل ما يفعله، والسبب أن الإسلام يساوى بين الجميع».
فقال لى: بذمتك هل هذا وقت فلسفتك؟
فقلت له: آهى عدت بقى وحبكت وقلتها وانتهينا.
فابتسم الرئيس، وبعد أن فرغ عم علوانى أدينا صلاتنا.
نُشر المقال في مجلة الأهرام العربي بتاريخ 20 فبراير 2021.