لن يتعارض تصنيف رواية مكان وزمان الدكتور مصطفى الفقى فى القائمة التى تضم «المستطرف من كل فن مستظرف» للأبشيهى و«الآمالى لأبى على القالى»، مع تصنيفها ضمن مصادر تاريخ مصر المعاصر، وبخصوصية تميزها عن غيرها من المصادر- والميزة لا تقتضى الأفضلية كما يقول أهل الفقه- خصوصية أن يتمتع الباحث المعنى بدراسة تلك الحقبة بقدرة النفاذ إلى ما وراء السطور والكلمات، لأن كل ما فيها من نوادر وطرائف وعجائب وحكايات تحتوى معانى عميقة مهمة رغم أنها مضمرة!.
ويبدو أن من وراء «تقية» التندر والتفكه أمرًا هو جوهر مفتاح شخصية الراوى، الذى كتب ما نصه: «اعتملت فى قلبى وعقلى تصورات ذاتية جديدة عن الحياة والناس والدين، وتساءلت فى أعماقى عن سر الكون وفلسفة الخلق، حتى اضطربت لدىّ بعض المعايير واهتزت فى صراع مباشر بين عقلى وقلبى نوازع الإيمان ودوافع اليقين، وتبلورت شخصيتى على نظرية الشك الذى يغلفه نوع من القلق والعجز عن تفسير حقيقة الموت، وربما من هنا تولدت مفاتيح شخصيتى، فكنت شديد الإيمان بقيمة العدل، حريصًا على الانتصار لمفهوم الحق، شديد الحساسية لقيم الجمال، أسعى دائمًا فى الخير، وأخاصم الشر، وأرغب- قدر المستطاع- فى إرضاء الجميع». انتهى الاقتباس، ويبدو أن تلك الرغبة قدر المستطاع فى إرضاء الجميع هى السر من وراء غياب المواقف الحدية الأحادية، ومن وراء محاولة الاجتهاد فى إقامة تصالح بين الأضداد والمتناقضات، ومن وراء إلقاء تبعة ما قد يبدو ازدواجية فى المواقف والأفكار على الصراع الداخلى بين العقل وبين العاطفة أو القلب، وحتى ينفى الدكتور مصطفى «قانون الصراع» تمامًا فقد وجدناه يقيم المصالحة بين ما يفرضه عقله وبين ميول قلبه.. فالسادات عند عقله رجل الدولة المتفرد بعد محمد على باشا، وعبد الناصر عند قلبه وعاطفته هو الأثير المتربع على عرش وجدانه!.
ثم وكما أن المحب الصب تفضحه عيونه، فإن المتعسف مع سنة الصراع الكونية تكشفه سطوره.. ففى ثلاثة أسطر، ضمن ما كتبه الدكتور الفقى عن محمد حسنين هيكل الجورنالجى، يضع عدسته الناقدة غير المتصالحة على سمة خطيرة تسم أهل السلطة: «.. ولم تكن مصر جميعها هيكل، فكان بها قامات كثيرة، ولكنها طوتها الأيام ولم يلتفت إليها أحد، حيث كان أهل السلطة يزعجهم أصحاب الرؤى الثقافية الكبرى، وتلك ظاهرة مصرية فرعونية يعتمدها البعض منهجًا، حيث يأتى ولى الأمر بمن هو أقل منه حتى لا ينكشف ضعفه الثقافى والمعرفى» انتهى.
وهنا أتساءل: هل تفسر هذه القاعدة وجهًا من وجوه طريقة تعامل الرئيس مبارك مع بعض معاونيه؟، إذ يمكن أن نقرأ من وراء سطور نوادر الرئيس وطرائفه، مع سكرتيره للمعلومات والمتابعة؛ أن الرئيس إما أنه مصاب بالسادية أو أنه مستخف بمن يعاونه، حتى وإن بدا انبهاره بثقافته وأسلوبه، أو بالأمرين معًا، لأن حكاية الكلب الشرس وعلقة البطيخة ورحلة ليبيا وغيرها تنبئ عن سادية واستخفاف!. ثم، وفى فصل الجامعة العربية، وفيما يبدو أنه تعليق على موقفى السيدين عمرو موسى ونبيل العربى، يوجه الدكتور الفقى سهم مرارة الصراع إلى الهدف مباشرة، حتى وإن لم يذكره بالاسم... «ولكن ليس كل ما يريده المرء يدركه.. ورب ضارة نافعة، خصوصًا أن أداء الجامعة العربية لم يرتفع إلى المستوى القومى الصحيح، ولم يعبر عن الإرادة العربية الحقيقية، إننى هنا فى مذكراتى لا أبكى على اللبن المسكوب، لكننى فقط أتذكر وأسجل ما حدث، وأظن أن فى حياتى عشرات المواقف التى أتشرف بها.. وأعتز بأنها تعلو فوق هامات المناصب وأصحابها» انتهى.
وهكذا فى كلمات، عصف الرجل بكل منهج التصالح وجعل من هامات من استفاض فى صفحات أخرى بذكر مناقبهم وتجليات عظمتهم، هامات أدنى من مواقفه.. ولا أريد أن أسكب زيتًا، بأن أذكر المعانى المختلفة لكلمة «موقف»!.
ثم إن صفحات رواية رحلة الزمان والمكان لا تخلو من قفز على بعض ما اتصل بزمان ومكان الرحلة، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، ثمة قفز على زمان ومكان جذور آل الفقى قبل الاستيطان فى البحيرة، فحسبما أعلم، وحدثت به الدكتور مصطفى، أن الجذور كانت على الضفة الشرقية لفرع رشيد بقرية كفر مجر مركز دسوق، ولم تفصح السطور عن لماذا كان الانتقال من الفؤادية- اسم محافظة كفر الشيخ القديم- إلى البحيرة، ثم ثمة تجاهل تام لأحداث تنظيم ثورة مصر وشخصية محمود نور الدين، وورود اسم خالد عبد الناصر كمتهم رئيسى فى القضية، وتدخل الرئيس مبارك؟!.
وإضافة لتلك التفاصيل الرفيعة أظن أن ثمة قفزًا، على ما أتصور، بحكم اهتمامى بالتاريخ وبالعمل العام معًا، أنه كان ضروريًا فى سياق تلك الرحلة، وربما يكون الرد مسبقًا بأن المنهج والأسلوب اللذين اختارهما صاحب الرواية لا يسمحان بالذى ظننته.. إذ المنهج سردى أكثر منه تحليليًا، والأسلوب خفيف بالمعنى الذى يختلف عن سطحى وعن مستخف، وهو ما يقابله بالإفرنجية Light على ما أظن.. ظننت أننا سنجد شرحًا- ولو بسيطًا- عن تنظيم «البلاط الرئاسى» فى عهد مبارك، لأننى أعلم أن الرئيس عبد الناصر أراد بعد 1967 أن يعيد تنظيم العمل فى رئاسة الجمهورية، وطلب الاطلاع على تنظيم العمل فى الإليزيه، والبيت الأبيض، ويبدو أنه لم يمهله العمر ولم تسمح له الظروف آنذاك بتطوير العمل على النحو الذى كان يفكر فيه، وللحديث صلة مع رواية الرحلة.
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2267054