صدور مذكرات الدكتور مصطفى الفقي مؤخراً فى أكثر من خمسمائة صفحة يعد حدثاً ثقافياً مهماً. وغلاف الكتاب يضعك فى حيرة. فالعنوان الأعلى فى الغلاف أنها مذكرات. ولكن العنوان الرئيسى: الرواية رحلة الزمان والمكان. وقد انتابتنى الحيرة فى البداية. هل هى مذكرات أم رواية؟ ولكنى عندما وجدت نفسى أسبح بين صفحاتها أدركت أنها تجمع بين الأمرين. المذكرات بما فيها من حميمية وإنسانية نادرة. والرواية بتغطيتها مترامية الأطراف لما جرى وما حدث لصاحب العمل.
وكل فصل من فصول هذه "الرواية المذكراتية" يُصدِّره الكاتب بعبارة دالة. ولكن الغلاف الأمامى للكتاب يضع فيه المؤلف هذه العبارة للروائى فرانس كافكا:
- خجلت من نفسى عندما أدركت أن الحياة حفلة تنكرية. وأنا حضرتها بوجهى الحقيقى. والاختيار لهذه العبارة عبقرى. فهى تهيئ القارئ فى الدخول إلى عالمها والتعايش معها لدرجة أننى شعرت خلال القراءة أننى أصبحت جزءاً من هذه التجربة التى يقدمها الكاتب.
يعترف صاحب رواية المذكرات أنه منذ سنوات بعيدة تراوده رغبة تنبع من إحساس بضرورة نشر الحقائق التى عرفها. والوقائع التى شهدها. والأحداث التى عاش وسطها. ويعترف أن الإنسان ابن ظروفه ونتاج تجاربه التى يجب أن ينقلها للأجيال الجديدة. وأن يضعها أمام من يريد معرفتها. خاصة أنه مؤمن بأن ليس هناك من يحتكر الحقيقة أو يدعى الصواب. فالواقعة الواحدة تختلف فيها وجهات النظر وفقاً لأطرافها. والحدث الواحد لا يتفق عليه معاصروه وفقاً لاختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم.
ويؤكد للقارئ أنه سيكون شاهداً أميناً لا يدعى البطولة ولا يتوهم أنه حالة خاصة يدرك جيداً أن الإنسان هو الإنسان فى كل زمان ومكان. ويصف كتابه بأنها مذكراته الشخصية. وأنه يروى فيها بتجرد شديد ما رآه وما سمعه. ثم يستدرك أن الرواية التى لم تكتمل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسرح الحياة. ويعد القارئ أنه عاهد الله فى هذا العمر أن يكون صادقاً حتى النخاع.
وأنه سيبدأ بإدانة تصرفاته قبل غيره. فقد بهرته اعترافات دخلت التاريخ بدءاً من جان جاك روسو، ومروراً بسيّر غاندى، ولويس عوض، وعبد الرحمن بدوى، وغيرهم. وأنا أحييه على النماذج التى اختارها. لأنها توشك أن تكون أهم السيّر الذاتية التى نُشرت فى القرن العشرين. ولست أدرى لماذا أغفل أيام طه حسين بأجزائها الثلاثة. ففيها تجربة مهمة مكتوبة بصدق نادر.
وإن كان يذكر طه حسين بالاسم باعتباره مولودا فى نفس اليوم الذى ولد فيه مصطفى الفقى. ويصفه بتعبير عميد الأدب العربى. ويثبت من ولدوا فى نفس هذا اليوم نهرو، وبطرس غالى، والملك حسين بن طلال، والأمير تشارلز، وهى أسماء على سبيل الأمثلة. وليس كل من ولد فى هذا التاريخ من المشاهير.
والمذكرات تقع فى ثمانية عشر فصلاً. تسبقها مقدمة وتلحق بها خاتمة. مع سرد بالصور عن بعض ما قيل عن صاحبها من رموز عصره. فقد كُتِب له أو قُدِّر عليه أن يخترق عهود جمال عبد الناصر مراقباً. والسادات مشاهداً. ومبارك مشاركاً. وعندما تقرأ هذا العمل الممتع ستدرك الفارق بين أن يراقب الإنسان ما يجرى. وأن يشاهده. ثم أن يُكتَّب عليه قدر المشاركة.
ثم يُلحِق الكتاب بعبارات قيلت عنه وصفحات كثيرة فيها صور له ولمن عاصروه. لدرجة أننى شعرت بالحسد أنه استطاع أن يحتفظ بكل هذه الكنوز التى قيلت عن شخصه. والصور التى جمعته بنجوم عصره.
المذكرات الروائية أو الرواية المذكراتية مكتوبة بتسلسل زمنى تبدأ من المشهد فى القرية وصولاً إلى الجامعة. وانتهاء فى الفصل الثامن عشر بحكايته مع مكتبة الإسكندرية حيث إنه الآن مدير لهذا الصرح الثقافى المهم جداً فى تاريخنا العقلى والفكرى والوجدانى. والفصل السابق عليها مباشرة عن 25 يناير و30 يونيو ثورة شعب.
وكل فصل من الفصول يُصدِّره بعبارات خالدة قالتها رموز الفكر الإنسانى فى ظروف إنسانية استثنائية. وإثباتها فى مقدمات الفصول يجعلها جزءاً من النص. تتفاعل معه وتضيف إليه.
الفصل الأول عنوانه: سنوات النشأة من القرية إلى الجامعة. يبدأه هكذا:
- من العبارات المأثورة للأديب العالمى ويليام شكسبير: الزمن بطيء جداً لمن ينتظر، سريع جداً لمن يخشى، طويل جداً لمن يتألم، قصير جداً لمن يحتفل.
ثم يكتب أنه اختبر فى حياته تقلبات الزمن جميعاً. رأى بطء الزمن عندما انتظره واختبر سرعته عندما لم يحفل به ووجده طويلاً عندما اعتراه الألم. ثم يحدد يوم ميلاده الثلاثاء 14 نوفمبر 1944م، 28 ذو القعدة 1363هـ، 5 هاتور من عام 1661.
ويقرأ معنا عدد الأهرام الصادر فى هذا اليوم. وما فيه من أخبار مهمة عن نهايات الحرب العالمية الثانية والشائعات بشأن صحة هتلر واجتماعات كل من تشرشل وإيدن للجنرال ديجول حول موقف فرنسا من سوريا ولبنان. أما بقية الأخبار فقد تناولت الوضع الداخلى فى مصر مثل الاحتفال بعيد الجهاد الذى كان فى اليوم السابق على صدورها.
من محاسن هذه السيرة الهوامش الموجودة فى بعض الصفحات. يذكر اسم علم من الأعلام يأتى فى الهامش لينير وعى القارئ بالمعلومات المهمة عن هذا العلم أو ذاك.
ومصطفى الفقى بلدياتى. أو لأقل أنا بلدياته. بدأ فى قرية كوم النصر بتفتيش المغازى باشا، مركز المحمودية بمحافظة البحيرة. وللميلاد والوفيات وللأحداث الكبرى التى عاصرها مكان مهم فى هذه المذكرات الروائية. وعندما يقترب من ثورة يوليو عام 1952، قامت ثورة يوليو 1952 وهو دون الثامنة من عمره. وعرف بأحداثها عندما سمع والده يتحدث عنها خارج المنزل مع أصدقائه.
كان والده يخشى أن تكون مثل هوجة عرابى. وكان يتمنى ألا تفشل مثلها. وهكذا ردد الطفل لفظ ثورة وسعِد بها. ثم يتوقف أمام وفاة والده فى عام 2000، بعد رحيل والدته بثلاث سنوات. ويحكى وهو حكاء ماهر سواء فى الحياة اليومية أو فى الكتابة خاصة فى هذا الكتاب. فيكتب أنه كان يعمل مساعداً أول لوزير الخارجية. وأن الرئيس الراحل مبارك اتصل به وقال له ملاطفاً كعادته معه: حتورث ولا إيه؟ فرد عليه: سأرث الستر.
كان عزاء والده ضخماً. حتى أن كمال الشاذلى قال له وقتها: لما حد يموت عندك ما تعملش العزاء فى جوامع، يبقى فى الاستاد بعد كدا. والكاتب الصحفى صلاح منتصر أشار إلى ذلك أيضاً حين كتب فى عموده قائلاً: حتى الموت لا يخلو من الحسد.
يكتب عن البحيرة أنها منجبة العبقريات من الإمام محمد عبده، وتوفيق الحكيم، إلى نجيب محفوظ، وأحمد زويل وغيرهم. وقد سعدت لأنه وضع نجيب محفوظ فى أبناء البحيرة. وهى معلومة حديثة جداً فى سياق تعرفنا عليها. وعند الكلام عن البحيرة لا ينسى أنها بلد أدهم الشرقاوى. ويتوقف أمام فتحى الشرقاوى المحامى. الذى اختاره جمال عبد الناصر شخصياً وزيراً للعدل. ويومها قال أصدقاء مصطفى الفقى: ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب.
وعندما يكتب عن قدرته على الارتجال والخطابة الرصينة فى طوابير المدرسة. وأنه حصل على كأس الخطابة فى أسبوع الجامعات. وعلى الجائزة الأولى من المجلس الأعلى للعلوم والفنون والآداب. عندما كتب قصة قصيرة بعنوان: ذبائح الليل. حول مأساة السقوط الأخلاقى بين بعض الشباب.
عَرْضُ ما جاء فى هذا الكتاب المهم قد يحتاج مساحة توازى عدد صفحات الكتاب. وهو ما يبدو مستحيلاً. لذلك أكتفى بالتوقف الآن أمام بعض ما قيل عن صاحب المذكرات الروائية. فقد قال عنه الأستاذ محمد حسنين هيكل فى عام 2014 أى قبل رحيله بعامين:
- من يقرأ ما يكتبه مصطفى الفقى أو يستمع إلى ما يقوله يظن أنه فى التسعين وليس فى السبعين. وأن من يتابع نشاطه الفكرى والسياسى أو حركته الدءوب فى الحياة العامة يقول إنه فى الخمسين وليس فى السبعين.
أما أحمد بهاء الدين فقد كتب عنه:
- فتح مصطفى الفقى ملف الأقباط كما لم يفعله أحد قبله.
والشيخ محمد متولى الشعراوى، فقد قال عقب تركه عمله فى رئاسة الجمهورية فى عهد الرئيس الراحل حسنى مبارك:
- لقد كنت أيها الرجل مثل الزهرة اليانعة فى صحراء جرداء.
البابا شنودة قال:
- نحن نأتنس برأيه لأنه موضوعى وأمين وجندى من أجل الوحدة الوطنية.
الدكتور يوسف إدريس قال عنه إنه شخص دارس وفاهم وواعٍ. والدكتور أحمد زويل قال إنه كان زميل دراسة وكان الأول دائماً. وسمير عطا الله كتب فى الدبلوماسية وفى السياسة وفى العمل الأكاديمى: تميز بشخصية ودودة وتواضع رفيع. وعندما انضم إلى كُتَّاب مصر الكبار نقل هذه الصفات إلى سطوره وكلماته.
الدكتور صلاح فضل كتب: إن معجزته الحقيقية نتيجة توافق فكرى وثقافى وشخصيته المتينة أنه لم ينكسر بعد خروجه من منطقة الضوء. قد صنع لنفسه دوائر أخرى من الضوء فى حياته الدبلوماسية وفى حياته الفكرية والثقافية.
الدكتور جابر عصفور كتب أنه عرفه فى أحواله الحسنة وفى أحواله السيئة. ورآه سعيداً لكنه يشهد أنه لم ير فيه ضعفاً يصل إلى حد الضعضعة أو التذلل أو الخنوع. والكاتب الصحفى عادل حمودة قال إن اختفاءه من الرئاسة أدى إلى اختفاء معلومات كثيرة كانت تصل إلى الرئيس مبارك.