إن التعددية نعمة وليست نقمة، وأنا لا أقصدها بعبارة الاختلافات الثقافية, ولكننى أقصد التفاوت النوعى فى الثقافة الذى يؤدى إلى سلوك مختلف، ونحن فى مصر نواجه هذه المعضلة لأسباب تتصل بالتعليم قبل غيره، ويكفى أن نتأمل أنماط الاختلافات التعليمية فى مصر لندرك حجم المشكلة بوضوح، فلدينا تعليم دينى ومدنى وتعليم أجنبى ووطنى وتعليم عام وخاص، فإذا كنا نؤمن بأن التعليم هو الذى يحافظ على وحدة الأمة وانصهار قطاعاتها المختلفة وفصائلها المتعددة وطبقاتها المتنوعة فإننا يجب أن نعترف أن نظام التعليم فى العقود الأخيرة قد أدى إلى حالة إرباك واضحة على سطح المجتمع، وأنا أرى أحيانًا المسافة الواسعة بين نمطين من الثقافة قد تكون إحداهما دينية إسلامية والثانية غربية أوروبية وهذا البون الشاسع بين أنماط التعليم المختلفة قد أدى إلى صدام حقيقى بين من يسعون إلى الاستنارة على أرضية وطنية وبين من يطلبون التحديث باستيراد أجنبى وفى الحالتين فإن المشكلة قائمة وكانت النتيجة أن حجم الضباب الكثيف يغلف المجموعات المختلفة، ولأن (المرء عدو ما يجهله) فإن هناك حالة من التربص بين مخرجات العملية التعليمية بمستوياتها المتعددة فلم يعد هناك من يحترم خيارات الآخر بل سادت روح الكراهية بين الشخصيات العامة نتيجة التفاوت فى المدخلات التعليمية والثقافية والفكرية وأدى ذلك إلى حالة انقسام حقيقى فى صفوف الأمة المصرية وغابت فى كثير من الأحيان اللغة المشتركة لمن يقفون على أرضية واحدة نتيجة التباين فى المنطلقات الفكرية والتعليمية، فبيننا من يؤمن بالخرافة ولا يحترم العلم وبيننا من يحاول استغلال الدين الحنيف لخدمة نظرته الضيقة وبيننا دائمًا من ينظر دائمًا خارج الحدود لأنه لا يملك الأصالة التى تربطه بأرضه وشعبه، ولقد كنا نقرأ دائمًا أن الفيصل فى انصهار عناصر الأمة ووحدة نسيجها هما عمودان لا ثالث لهما وهما الجندية والتعليم، فالكل سواسية أمام خدمة العَلم ولكنهم لم يصبحوا سواسية فى إطار الاختلاف الشديد بين نوعيات التعليم ناهيك عن الآثار السلبية لوجود أكثر من ربع سكان مصر لا يقرأون ولا يكتبون، لقد كانت المدارس العامة منذ عدة عقود مدعاة للفخر والاعتزاز فكان هناك من يقول إنه خريج مدارس (السعيدية) أو (النقراشي) أو (بنبا قادن) أو أسيوط الثانوية أو دمنهور الإعدادية وهذه مجرد أمثلة، والمدهش أن أبناء الطبقات القادرة من ذوى الإمكانيات الكبيرة كانوا يجلسون الى جانب زملائهم القادمين من الطبقات الكادحة داخل الفصل الواحد بلا تفرقة أو تمييز، ويومها كنا نقول إن هناك تعليمًا يخضع له الجميع ويقف تحت مظلته الكل بلا تصنيف طبقى أو تفضيل اجتماعي، فأنا أعرف أحد الأصدقاء من جيل سابق كان قادمًا من الطبقة المتوسطة أو ما دونها وكان يجلس إلى جانبه ابن (ناظر الخاصة الملكية) فى وقت لم يكن فيه التعليم الأجنبى بالشيوع الذى نراه الآن! كما أن التعليم العام كان صامدًا وصلبًا ورائدًا فى المنطقة كلها، ولقد حكى لى صديقى الكاتب الصحفى الأستاذ محمد عبد المنعم أنه كان يجلس فى المدرسة الإبتدائية ــــ وهى مدرسة عامة ومحترمة فى وقتها ــــ وكان المدرس يسأل بعض الطلاب عن وظائف آبائهم كنوع من الزلفى والتقرب، وكان صديقى محتارًا فى وظيفة والد زميله التى ذكرها للمدرس عندما سأله لقد قال الطفل: إن أبى هو (مقصدار جلالة الملك) وكان الأمر غير مفهوم للتلاميذ من زملائه, بينما المقصود أن أباه هو الترزى الخاص لملك مصر، إننى أحلم بتلك الأيام الخوالى التى كان فيها المصريون متساوين تعليميًا، متقاربين ثقافيًا، رغم التفاوت الطبقى الذى لا ننكره واستئثار فئة قليلة بمقدرات الوطن، وأتذكر عندما ذهبت إلى العاصمة البريطانية دبلوماسيًا ودارسًا فى ذات الوقت أن سلطات التعليم البريطانى كانت تعتبر الخريج المصرى فى مستوى زميله البريطانى فى ذات التخصص وتكتفى فقط باجتيازه اختبارًا فى اللغة الإنجليزية أما الخريج الهندى فكان معفيًا من اختبار اللغة الإنجليزية ولكنه ملزم باجتياز امتحان معادلة فى تخصصه حتى يتساوى فى مستواه التعليمى مع زملائه البريطانيين والمصريين! فأين تلك الأيام التى كان فيها التعليم المصرى هو أداة الانصهار العقلى والفكرى بين أبناء الوطن الواحد كما كان فى ذات الوقت هو أغلى سلعة نصدرها لأشقائنا فى المنطقتين العربية والإفريقية والعالم الإسلامى بل إن التعليم الأزهرى كان هو فى حد ذاته منارة للمنطقة كلها فخرج منه رفاعة الطهطاوى وطه حسين والأخوان عبد الرازق فضلًا عن الإمام المجدد محمد عبده، كما قدم للقارتين الآسيوية والإفريقية زعامات معروفة فكان (عبد القيوم) رئيس جمهورية (المالديف) خريج الأزهر الشريف وكذلك كان أحد رؤساء جمهورية إندونسيا منذ عقدين كما أن الفارس العربى الإفريقى (هوارى بومدين) رئيس الجزائر وأبرز أبطال استقلالها كان هو الآخر خريج الأزهر الشريف، ولماذ نذهب بعيدًا فإذا كنا نقول إن الفن هو الحياة لأنه نقيض الإرهاب وهو الموت فلنتذكر الآن أسماء مثل الشيوخ سلامة حجازى وسيد درويش وزكريا أحمد وسيد مكاوى لندرك حجم الليبرالية الرائعة التى تمتع بها ذلك الحصن الإسلامى التليد.
هذه خواطر جالت فى ذهنى وأنا أرى بلادى وهى تمثل رأس حربة ثقافية لا يخبو ضوؤها ممتدًا من الأزهر الشريف عابرًا الى مكتبة الإسكندرية مارًا بالجامعات المصرية العريقة ملتحفًا بأعرق تراث حضارى فى العالم المعاصر.. إنها تأملات تستحق المزيد!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47608
تاريخ النشر: 11 ابريل 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/587897.aspx