رغم أننى عرفت د. مصطفى الفقى منذ أربعين عامًا، وجمعتنى ود. على الدين هلال، والراحلين د. سيد يس، وعمرو مُحيى الدين صداقة وثيقة عرفت فيها الكثير عنه وتبادلنا الحكايات والذكريات، تصورت معها أننى أعرف عنه ومنه الكثير عن رحلة حياته، من قُرى محافظة البحيرة التى ولُد فيها، إلى ناطحات سحاب نيويورك، إلى معابد وأفيال الهند، إلى ليالى فيينا، التى غنّت لها أسمهان، ورأينا جمالها فى رائعة صوت الموسيقى، والتى عاد منها ليلعب أدوارًا مهمة فى وطنه، بالقرب من ثلاثة من رؤساء مصر العظام، وفى برلمانها نائبًا عن دائرته الانتخابية فى محافظة البحيرة، وشغله لرئاسة لجنة الشؤون الخارجية، والتى كان مؤهلًا لها تمامًا، بحكم دراسته للعلوم السياسية، ثم خدمته الدبلوماسية فى ثلاثة من أهم العواصم الدولية فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وهى لندن ونيودلهى وفيينا.
ومع ذلك حينما تلقفت نُسخة من مُذكرات الرجل، وأنا فى بداية طريقى لقضاء عطلة نهاية الأسبوع فى مزرعة الأسرة فى وادى النطرون، وبدأت تصفحها، فإننى لم أستطع التوقف عن قراءتها من الصفحة الأولى إلى الصفحة 511.
فمصطفى الفقى يتمتع بأسلوب رشيق، ولغة سلسة، وقُدرة فذة على الحِنكة القصصية، حتى وهو يتناول الشأن العام. ودارت فى خاطرى أنه إن لم يكن قد اختار الدبلوماسية والسياسة، لكان قد أصبح أديبًا روائيًا مرموقًا، وربما كان ذلك فى وعيه أو لا وعيه فى اختيار كلمة «رواية» فى العنوان، فهى بالفعل رواية تصلح أن يتلقفها مُخرج سينمائى، أو كاتب مسرحى ليُحولها إلى فيلم أو مسرحية.
ومنذ الفقرة الأولى فى مقدمة المذكرات، يُخاطب مصطفى الفقى فى كلمات أظن أنها صادقة بأنه ينشر الحقائق التى عرِفها، والوقائع التى شهدها، والأحداث التى عاش وسطها، فهو ابن ظروفه، ونتاج تجاربه التى يجب أن ينقلها إلى الأجيال الجديدة، وأن يضعها أمام منَ يُريد أن يعرفها نصوصًا، وأنه لا يدَّعِى احتكار الحقيقة، أو أنه وحده على صواب.
وبتلك الكلمات، فإن ذلك الدبلوماسى الحصيف قد حصّن نفسه فى مواجهة منَ يمكن أن يختلفوا معه، أو أن يجرّوه إلى ساحات القضاء، فقد عمل الرجل مع أهم رؤساء مصر فى القرن العشرين، ومع ألمع وزراء خارجيتها، وتفاعل مع العشرات من المثقفين والإعلاميين والفنانين. وهو يُسجل بعض ما علق فى ذاكرته أو وجدانه فى رواية الخمسمائة صفحة، وهذا كثير. ولكن هناك ما هو أكثر مما لم يكشف عنه بعد مصطفى الفقى، والذى ربما سيظهر فى أجزاء إضافية، بعد أن لقى ما ظهر منها حفاوة بالغة من كثير من رؤسائه وزُملائه، الذين مازالوا على قيد الحياة.
وجدير بالتنويه أن مذكرات مصطفى الفقى تأتى بعد نشر مُذكرات أخرى لعدد ممن عمل معهم، مثل عمرو موسى، وأبوالغيط.
ولم يغب من مذكرات تلك الكوكبة من مدرسة الدبلوماسية العريقة غير الراحل أسامة الباز، الذى سبق جيل مصطفى الفقى بثلاثين سنة، ويتشابه معه فى خلفيته الريفية، وعمله بالقُرب من نفس الرؤساء، بالإضافة إلى الزعيم الخالد جمال عبدالناصر. ولذلك لم تكن محض صُدفة أن اكتشفه أسامة الباز، ولمس فيه نفس صفات المُثقف الوطنى المُخلص والمُثابر فى عمله.
ومع ذلك، فقد كان ثمة اختلافات بين شخصيتيهما، من ذلك أن أسامة الباز كان عَزوفًا عن الأضواء، وعن المناصب. من ذلك أنه رغم أربعين عامًا فى وزارة الخارجية المصرية، لم يشغل منصب وزير مفوض أو سفير فى أى من سفاراتنا الخمسين فى زمانه وفى كل الدُنيا. كما كانت هوايته الترفيهية الوحيدة هى الزوغان من ديوان الوزارة فى ميدان التحرير، مرة واحدة أسبوعيًا، لدخول إحدى سينمات وسط البلد القريبة. وللأسف رحل أسامة الباز دون أن ينشر مُذكراته، ولا نعلم إن كان قد كتبها فعلًا، ربما سنعلم ذلك يومًا من نجله الوحيد، باسل أسامة الباز.
وربما من أهم ما فى مُذكرات مصطفى الفقى، بالنسبة لى ولأبناء جيلى، المُلحق الذى خصصه للصور، فهى فى تسلسلها تروى بدورها مصريًا رحلة أو حكاية الزمان، سبعين عامًا، من أواخر العهد الملكى لأسرة محمد على وبكواتها وباشواتها وبناتها وسيداتها، والذى كان عصر الأناقة مع الاحتشام، والذى تتوازى معه أفلام السينما المصرية فى عصرها الذهبى، الذى ظهر الحنين له من الكبار، والشغف الكبير له من الأجيال الجديدة من المُشاهدة الكثيفة لمسلسل ليالى الحلمية، لمؤلفه العبقرى الراحل أسامة أنور عُكاشة.
وهكذا تُكمل مُذكرات مصطفى الفقى تلك البانوراما، التى تبدأ بمحمود رياض وإسماعيل فهمى، وغيرهما الكثير، والتى قرأت معظمها، ولكن مُذكرات مصطفى الفقى تختلف عن سابقتها فى أنها لم تكتفِ بالسرد وتسجيل الوقائع، ولكنها تتجاوز ذلك بالتحليل والاستخلاص، دون إصدار أحكام قيمية.
وربما كانت هذه السمة البارزة فى حكاية أو رواية مصطفى الفقى ترجع إلى أنه كان دارسًا، ثم مُحاضرًا، ثم مُمارسًا لعِلم السياسة، وانفتاحه على العلوم الاجتماعية الأخرى. ولذلك أرجو أن يوصى أساتذة العلوم السياسية تلاميذهم بقراءة رحلة مصطفى الفقى فى الزمان والمكان.
إنه كتاب لابُد من قراءته من كل مَن يهتمون بالشأن المصرى والعربى والدولى، فهو نافذة مهمة على كل تلك العوالم.
وشكرًا لصديقنا الموسوعى مصطفى الفقى على ما أسداه لوطنه من خدمات جليلة، وعلى ما أهداه للمكتبة العربية من مؤلفات أصيلة.
وعلى الله قصد السبيل..
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2275423