تبدو اشكالية "أدب السيرة الذاتية" وما يعرف بأدب البوح، فى عالمنا المعاصر، فى اصطناع وخلق البطولات الواهية، وتضخيم الذات، وتحاشى البُعد عن النظر للمواقف والحقائق بنظرة موضوعية مجردة، فلا أحد يملك الحقيقة الكاملة، والكل يملك منها جزءاً وندر يسيرا، بحسب ما تيسر له موقعه واطلاعه ورؤيته، وقناعاته وتصالحه مع نفسه أولاً وأخيراً.
وباستثناء عدد محدود من مشاهير السياسة والثقافة فى مصر، نجح المفكر السياسى البارز الدكتور مصطفى الفقي، مدير مكتبة الإسكندرية، فى "التجرد" من الذات، وتحاشى البطولات الزائفة، والبوح بأقصى ماهو مسموح به، فى مذكراته الصادرة مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية، بعنوان "الرواية.. رحلة الزمان والمكان".
"كاريزما الحكي" التى يتمتع بها "الفقي" استطاع توظيفها ببراعة مذهلة وأناقة لغة، عبر صفحات مذكراته، التى جاءت فى نحو 500 صفحة، فى مجلد أنيق، استهل به به السياسى المرموق عبارة فرانس كافكا الشهيرة: "خجلت من نفسى عندما أدركت ان الحياة حفلة تنكرية، وانا حضرتها بوجهى الحقيقي"، وافتتاح كل فصل من فصولها الـ18 باقتباس لأعلام فى التاريخ الإنساني، مشيراً إلى إيمانه بأن الندم الإيجابى أفضل من الندم السلبي، والفرص الضائعة تدعو إلى الأسى، والأخطاء هى تجارب تفسرالحاضر وتضئ المستقبل.
يرى "الفقى" أن حياته توزعت "أفقيا" بين العمل الدبلوماسى والنشاط الأكاديمى والاهتمام السياسى والظهور الإعلامى والإسهام البرلماني، متسائلا: ترى لو أننى ركزت على طريق واحد وفقا لمنطق التخصص، أما كان هذا "أجدع" وأفضل؟ مؤكداً أن روايته "لم تكتمل بعد" حيث ترتبط ارتباطاً وثيقاً بـ"مسرح الحياة"، وأن ما سجله هو رؤيته، وما اعتقده أنه الحقيقة، دون حجر أو تسفيه لرأى أحد، وأنه عاهد الله- فى هذا العمر- أن يكون صادقاً حتى النخاع، وأن يبدأ بإدانة تصرفاته قبل غيره، بعد أن ابهرته اعترافات دخلت التاريخ، بدءا من "جان جاك روسو" مروراً بسير"غاندي" و"لويس عوض" و"عبد الرحمن عوض" وغيرهم.
بقوله: لن أسمح لمشاعرى الشخصية أن تطغى على الحقيقة، ولن أتيح للهوى الإنسانى من حب وكراهية أن يلون المشاهد، ليرفع من يشاء ويسئ لمن يريد، إذ ليست لدى عقدة أعانى منها، وسوف أتجنب بالضرورة كل ما يؤدى إلى تجريح الآخر، أو الإساءة للغير، بما لا يسكت الحقيقة ولا يجمل الواقع، ملتمساً أكبر قدر من الشفافية ونزاهة الكلمة وصدق العبارة، ولقد جنبت صداقاتى بعيداً عما أكتب، وتناسيت خصومى فيما أسطر، لأننى أريد الحقيقة لوجه الله والوطن.
يبدأ "الفقى" مذكراته منذ سنوات النشأة من القرية إلى الجامعة، ومولده فى 14 نوفمبر 1944، فى قرية "كوم النصر" مركز المحمودية، محافظة البحيرة، وأسرته المكونة من والده ووالدته، وست أشقاء وشقيقات، ودخوله "كتاب القرية" لحفظ القرآن الكريم، ومبادئ اللغة العربية، وعبارة والده التى أثرت فى حياته (إذا زهزهت خاف منها)، وهى الحكمة التى تعلم منها الابن الحذر طوال حياته.
مروراً بمراحل التعليم المختلفة، والتحاقه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة، عام 1962، وترشحه لرئاسة اتحاد الطلاب، الذى كان آنذاك مدرسة حقيقية للعمل السياسي، و"منظمة الشباب العربى الاشتراكي" وترشحه لعضوية "التنظيم الطليعي" بعد لقاء واستدعاء من "علي صبري" نائب رئيس الجمهورية وأمين عام الاتحاد الاشتراكى آنذاك.
كاشفاً فى سيرته، كيف أن رئيس جهاز المخابرات الأسبق "صلاح نصر"، غيّر مسار حياته، بقوله: أمضيت سنوات الكلية الأربع بيسر ونجاح، وحصلت على تقدير جيد مرتفع، عام 1966، وبعد أيام من تخرجي، جاء إلى منزلنا بمصر الجديدة، مندوب من المخابرات العامة، يحمل إشارة بدعوتى إلى حضور اختبار فى مقر الجهاز، ولم أكن متحمساً لذلك بحكم طبيعتى المنفتحة ورغبتى فى العمل السياسى العام، وليس الأعمال السرية والحذر الأمني، وحضرت ذلك الاختبار، الذى حضر السيد "صلاح نصر"- رئيس الجهاز آنذاك- جانبا منه، وشارك فيه أستاذ متخصص فى الدراسات السلوكية من جامعة عين شمس.
وعندما جرى توزيع استمارة تشمل سؤالا: (هل أنت عضو فى تنظيم سياسي؟) أجبت: "نعم.. انا عضو مجمد فى التنظيم الطليعي"، وفى نهاية اليوم استقبلنا السيد "صلاح نصر" الذى نظر إلىّ قائلا: "إن قدراتك تمضى على نحو أفضل فى الحياة السياسية العامة، وليست فى كواليس الأجهزة".
وللحديث بقية
https://www.alhilalalyoum.com/796819