تربطني بالأردن الشقيق علاقة ذات خصوصية، فأنا معجب بشعبه الذي يمثل نموذجًا ثقافيًا رائعًا يمزج بين ثقافتي الشام والجزيرة العربية، وهي دولة تميزت بقدر كبير من التعايش الناجح رغم موقعها الجغرافي الصعب والمشكلات المحيطة بها من كل اتجاه والأزمات التي مر بها ملوكها خصوصًا الحسين بن طلال وعبد الله بن الحسين، ولقد أسعدني كثيرًا أن تلقيت هدية ممتعة هي كتاب الدكتور فايز الطراونة السياسي الأردني المعروف ورئيس الديوان الملكي الهاشمي ثلاث مرات ورئيس الوزراء مرتين وهو ابن وزير سابق أيضًا، فالنظام السياسي الأردني اعتمد تاريخيًا على بعض من العائلات السياسية التي بدأت منذ عهد الملك المؤسس لإمارة شرق الأردن عبد الله بن الشريف حسين، فهناك عائلات مثل ـــ وبلا ترتيب ـــ الرفاعي والمجالي والفايز واللوزي والطراونة والخصاونة والنابلسي والتلهوني وطوقان والمفتي والملقي والمصري وغيرهم من أسماء البيوت السياسية الأردنية العريقة ممن لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم المحترمة، ولقد استمتعت كثيرًا بهدية السياسي الأردني المرموق والذي أعتز كثيرًا بمعرفته، فقد التقيت به في عدة مناسبات كان آخرها في حفل زفاف بالقاهرة لابن صديق مشترك هو الفنان المثقف خالد زكي، ولقد تصفحت بل والتهمت صفحات ذلك الكتاب المتفرد للدكتور فايز الطراونة والذي جعل عنوانه (في خدمة العهدين)، والكتاب نموذجي بين كتب السيرة الذاتية لأنه يقدم جزءًا من تاريخ الأردن الحديث والمشكلات التي واجهها، ويؤرخ بأمانة لتاريخ تلك الدولة المتألقة برغم المصاعب والمتاعب التي واجهتها في العقود الأخيرة، وتطل من بين سطور ذلك الكتاب الذي يقع في أكثر من خمسمائة صفحة مع ملحق رائع من الصور الملكية المرتبطة بالمناسبات الوطنية للمملكة الأردنية الهاشمية، وتبدو حكمة الحسين بن طلال وراء سطور هذا الكتاب ومواقفه الذكية وقراراته الحصيفة، وأنا أعتز شخصيًا بأن لي مع ذلك الملك الراحل نقطة التقاء، فنحن شريكان في يوم الميلاد 14 نوفمبر مع فارق في السنين لا يزيد عن تسع سنوات، ولذلك فإن الإذاعة الأردنية كانت تطلب مني كلمة سنوية في عيد ميلاد جلالته الذي هو أيضًا عيد ميلادي مع جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند الراحل وعميد الأدب العربي د. طه حسين وولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز والدكتور بطرس بطرس غالي أمين عام الأمم المتحدة الأسبق، ولذلك فإنني سعيد أن أكون بقيمتي المتواضعة بين هذه الزمرة المتألقة التي يتصدرها الملك الحسين رحمه الله، وكنت كلما زرت الأردن سواء في عمان أو العقبة برفقة الرئيس المصري الراحل مبارك أشعر بتميز ذلك البلد ومكانته، ولا أنسى تواضع الملك الراحل عندما اصطدمت بباب زجاجي شفاف في القصر الملكي حين ناداني الرئيس الراحل مبارك وهو يجلس مع الملك الراحل الحسين منفردين، ومن فرط الاستعجال لم أر اللوح الزجاجي الذي اصطدمت به فإذا الملك المعروف ببساطة الهاشميين وتواضع آل البيت يهب شخصيًا للتعرف على حجم الإصابة ويهدأ من روعي نتيجة الصدمة المفاجئة، والرئيس مبارك يداعب الملك قائلًا: إننا لن نستطيع تشغيله بعد اليوم حيث حصل على هذا التعاطف الملكي الكبير، ولقد كتب د.الطراونة مذكراته في أكثر من ستة عشر فصلًا كل منها أمتع من سابقه، مع التعددية الواضحة بين الموضوعات المختلفة بما يدل على تذوق المؤلف لعلوم الاقتصاد والسياسة والاجتماع مع فهم عميق للتاريخ وكتابات رصينة لا تخلو من مسحة أدبية ونبرة ثقافية واضحة، مع إلمام بفلسفة الإسلام العظيم خصوصًا في الفصل الذي يتحدث فيه عن مواجهة الإرهاب المستتر تحت عمامة الدين وعباءة الإسلام بينما الدين الحنيف من كل ذلك براء، وحين يتعرض السياسي الكبير لمحنة مرض الملك الحسين فإنه يكتب الأحداث بعاطفة جياشة ممتزجة بالألم الشديد حزنًا على مؤسس الأردن الحديث وهو يتعرض أيضًا للأيام العصيبة قبيل رحيل الملك ومنها نقل ولاية العهد في سلاسة وتحضر من الأمير المثقف الحسن بن طلال إلى الابن الأكبر للملك الراحل عبد الله بن الحسين الذي شغل مقعد والده باقتدار وأثبت كفاءة مدهشة وقدرة فائقة على قيادة المملكة في ظل ظروف صعبة من احتدام الصراع العربي الإسرائيلي إلى سنوات ما سمي بالربيع العربي، فالأردن يملك حدودًا مباشرة ومشتركة مع سوريا والعراق وأيضًا إسرائيل إلى جانب امتداد شديد مع الشعب الفلسطيني الصامد والذي يعتبر الأردن ظهيره الأول وشريكه الأساس في معاناة السنين على امتداد تاريخ المشكلة الفلسطينية بتداعياتها وملابساتها، ويعطي الكاتب الملك عبد الله الثاني قيمته الحقيقية ويشير إلى قدراته الواضحة التي كانت مفاجأة للجميع الذين كانوا لا يعرفون إلا قليلًا عن الملك الجديد فإذا به يتمكن من استكمال مسيرة والده باقتدار وذكاء وحكمة فضلًا عن حنكة سياسية موروثة في البيت الهاشمي الكبير، ولازلت أتذكر شخصيًا عندما أدى الملك الجديد اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة وقدمه زيد الرفاعي السياسي الأردني المخضرم ورفيق الحسين بن طلال في الدراسة والحكم حيث كان زيد الرفاعي هو رئيس مجلس الأعيان حينذاك، وقد تقدم من منصة المجلس مناديًا صاحب (الحضرة الهاشمية) الملك عبد الله بن الحسين ملك الأردن الجديد وكأنما كان يبشر بعهد قادم من تاريخ ذلك البلد المتألق دائمًا الصامد أمام الخطوب والضغوط والتحديات، ويشير المصريون دائمًا بارتياح ورضا إلى العلاقات الوثيقة بين عمان والقاهرة في العقود الخمس الأخيرة، وقد أدهشني شخصيًا أثناء زيارتي مع الدكتور أسامة الباز في لقاء الملك الراحل ورئيس الوزراء أحمد عبيدات عام 1985 أن الطريق إلى القصر الملكي كان يمر بميدان كبير يسمى ( دوار عبد الناصر) رغم أننا نعلم جميعًا الخلافات الحادة بين الملك الأردني الحسين بن طلال والرئيس المصري جمال عبد الناصر لأسباب طويلة لا مجال لخوضها ولكن سماحة الملك المعروفة جعلته دائمًا يتعامل مع مصر التي درس في كلية فيكتوريا بها، قريبًا منها، محبًا لشعبها، حريصًا ـــ قدر الإمكان ـــ على علاقات طيبة معها، وقد سار على دربه الملك الحالي تأكيدًا للعلاقات الوثيقة بين القطرين العربيين.
إن مذكرات الصديق العزيز والسياسي المحترم الدكتور فايز الطراونة قد أعطتني نفحة قومية وطاقة إيجابية تجعلني أعتز به أكثر وأشكره دومًا داعيًا كل من يريد أن يعرف جديدًا عن الأردن الصامد أن يقلب صفحات ذلك الكتاب الذي كتبه صاحبه بأمانة في خدمة العهدين.
نُشر المقال في جريدة الأهرام 24 مارس 2021.