يواصل المفكر السياسي البارز، الدكتور مصطفي الفقي، مدير مكتبة الإسكندرية، مذكراته، الصادرة مؤخرًا، والتي حملت اسم "الرواية .. رحلة الزمان والمكان"، وكيف التحق هو ودفعته بالعمل الدبلوماسي، عام 1966، بقرار جمهوري من الرئيس جمال عبد الناصر، دون امتحان، وكان أمرا مستهجنا وقتها، بقوله: "جرى استقبالي وزملائي المعينين بقرار جمهوري في وزارة الخارجية، بكثير من الامتعاض، باعتبارنا من أبناء منظمة الشباب- جواسيس الاتحاد الاشتراكي في نظرهم- وأننا لم ندخل الخارجية بالطرق الطبيعية، ولكن تم التحاقنا بقرار جمهوري، لكنني بعد شهور قليلة تكيفت شخصيا مع زملائي، وأصبحت مقبولا بينهم بل ومحبوب أيضا".
مرورا بالتحاقه بالعمل عام 1971، نائبا للقنصل المصري في لندن، التي كانت نقطة تحول كبير في حياته، وتشكيل شخصيته الدبلوماسية والثقافية والاجتماعية، ومحاولات تجنيده من قبل "الموساد الإسرائيلي" باعتباره "حامل حقيبة دبلوماسية" ومفاتيح الشفرة بين بلاده وسفارتها في المملكة المتحدة، واختلاق صدف كي تكون مبررًا طبيعيًا لعلاقة مصطنعة، وهي المحاولة التي أحبطتها يقظة "الفقي" ولجوئه إلى الوزير المفوض جمال سعيد مدير محطة المخابرات المصرية في لندن.
ورؤيته للمجتمع البريطاني، وساسته، وواقعة وصول هدي عبد الناصر- نجلة الزعيم الراحل، لعاصمة الضباب عام 1973، لجمع مادة علمية لدراستها العليا، واحترام ضابط الجوازات لها في مطار "هيثرو"، عقب تصفحه جواز سفرها الدبلوماسي، وسؤاله: هل هي قريبة الرجل العظيم؟ دون أن يذكر الاسم، قاصدا "عبد الناصر"، وعندما تأكد منحها إقامة مفتوحة، ووجهها إلى صالة كبار الزوار، بقول "الفقي": "يومها أدركت أن الخصم القوي يكون محل احترام اكثر بكثير من صديق ضعيف التأثير محدود الإرادة، وأن الغرب لا يحب ولا يكره، لكنه يحترم أو لا يحترم، وقد كان عبد الناصر خصما قويا، فاحترمه البريطانيون، وتعاملوا معه دائما باعتباره قيمة كبيرة في العالم العربي".
عارجا لدراسته وحصوله علي الدكتوراه بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة أكسفورد، عام 1977، ورحلة "العجائب" التي صادفته هو وأسرته خلال عمله عام 1979 بسفارة مصر في "نيودلهي" بالهند، والسنوات الأربع التي شاهد فيها كم هائل من الغرائب والتناقضات، بقوله: "تعلمت فيها ما يعادل أربعين عاما من عمري، شاهدت فيها أكثر درجات التقدم، وأدني درجات التخلف".
ويتابع "الفقي" في مذكراته سنوات عمله الثمانية، مع الرئيس الراحل الأسبق، حسني مبارك، والتي بدأت عام 1983، بنبوءة "عراف هندي"، وتعيينه "سكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات والمتابعة"، وهي الفترة التي اقتراب فيها المفكر السياسي البارز، من الرئيس الراحل كثيرًا، واصفا إياه: "شخصية مبارك كانت تميل إلى التوازن المريح، والاعتدال الشديد وتجنب المشكلات، والابتعاد عن كل ما يثير الجماهير".
مسترسلا: "كانت علاقتي بالرئيس الأسبق مبارك، دائما ملتبسة، وقربني إليه وكنت واحدا من جلسائه في المركز الرياضي وخارجه، حيث كان دائم التردد علي النادي الصحي "الساونا" ويأمرني بالدخول معه كنوع من التعذيب، رغم تأكيدي له أنني بدنيا وصحيا أختلف عن الطيارين".
كاشفا أن الرئيس الأسبق، كان يضعف أمام مؤسستين، هما المؤسسة الدينية والمؤسسة القضائية، ويعطيهما الاحترام اللازم والتوقير المطلوب، وقد شاهد ذلك عن قرب.
يعرج مدير مكتبة الإسكندرية، في مذكراته، إلى لقاءه ومن تعامل معه خلال عمله الدبلوماسي، برموز السلطة في العالم العربي، أبرزهم العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، ملك البحرين الملك عيسي بن حمد، حاكم الشارقة وعاشق مصر الشيخ سلطان القاسمي، والعاهل الأردني الراحل الملك حسين بن طلال، الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وغيرهم من الزعماء.
كذلك صحبته لعددٍ من نجوم الفكر والأدب والفن في مصر، من الأسماء الثقيلة واللامعة، أبرزهم أديب نوبل نجيب محفوظ، احمد بهاء الدين، أنيس منصور، عبد الرحمن الأبنودي، رجاء النقاش، عبد الحليم حافظ، المايسترو صالح سليم، الفنان التشكيلي صلاح طاهر، وصداقته الوطيدة بأمير الساخرين محمود السعدني، التي تعود لمنتصف السبعينات في لندن، واستمرت حتي وفاته.
و"الجورنالجي- الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل" الذي تعود علاقته به لعام 1968 في ندوة بجريدة الأهرام، عن طريق الدكتور أسامة الباز- الدبلوماسي المرموق الراحل- كاشفا أنه اعتاد أن يستأذن الرئيس مبارك بين فترة وأخري لزيارة "هيكل" في منزله، للاستماع إلى تحليلاته ورؤيته للأوضاع العالمية والإقليمية، والوضع المصري داخليا وخارجيا، والصدام بين "مبارك وهيكل" بسبب ندوة الجامعة الأمريكية الشهيرة، وعبارته "ترهل النظم وشيخوخة الحكم وسطوة رجال الأعمال" التي أغضبت الرئيس الراحل.
ويواصل "الفقي" في مذكراته كيف واجهت "قطر والسودان" ترشحه لمنصب أمين عام الجامعة العربية، عام 2011، مرورا باختياره وتعيينه، مديرًا لمكتبة الإسكندرية، في مايو 2017.
خاتما: "اكتشفت أن المحبة والمودة يمثلان المفتاح السحري، لقلوب الناس في كل زمان ومكان، والكراهية والبغضاء يدمران اسمي ما يملك الإنسان، ولقد اقتربت من السلطة واكتشفت أن القريب من السلطان كـ"راكب الأسد" الناس منه في خوف، وهو علي نفسه أخوف، والله لا يعطي المرء كل ما يريد في وقت واحد، وقد تكون أكثر اللحظات تعاسة وشقاء في حياتنا هي بداية الخير لأصحابها، وقد تكون أكثر اللحظات بهجة وسرورًا هي بداية النهاية".
نهاية .. تبقي مذكرات "الفقي" واحدة من اصدق مذكرات رجال "السياسة" في مصر، طوال سنوات ماضية، حملت علي نحو كبير شجاعة الاعتراف، بالخطأ والصواب، والضعف البشري، فالكثير من المشاهير والساسة يرتدون الأقنعة، لكن قليلهم من ينجح في كتابة مذكراته بوجهه الحقيقي، دون زيف أو اصطناع بطولات.
جريدة الهلال اليوم
https://www.alhilalalyoum.com/806074