أقلق كثيرًا من استخدام المصعد خصوصًا للأدوار العُليا إن لم أكن متأكدًا من سلامته، أو أن يكون معى عامل المصعد، أو أن يكون هناك عند بابه السفلى مَنْ يتابع حركته، وتلك عُقدة قديمة معروفة يشاركنى فيها الكثيرون، وهى القلق من تعطُّل المصاعد بين الأدوار، وما يمكن أن يصاحب ذلك من توتر وقلق يصل إلى حَدِّ الذُّعر، ولى تجربةٌ قاسيةٌ لا أنساها عندما كنت أنا والدكتور أبوشادى الروبى، أستاذ الطِّب وعازف الموسيقى الرَّاحل، ومعنا صديقٌ قادمٌ من لندن -رحمه الله- هو د.فكرى سويلم، وكان فندق هيلتون رمسيس قد جرى افتتاحه منذ أيامٍ قليلةٍ، وأخذنا المصعد من الدور الأرضى إلى الطَّابق التَّاسع عشر، ولم نكن نعلم أن المصاعد مازالت تحت الاختبار وقيد التَّسليم، فإذا بالمصعد يتوقف بنا بين الطَّابقين السابع والثامن فجأة ودون مقدمات، وحاولنا الاتِّصال بمَنْ يمكن أن يسعفنا، ولكن دون جدوى، إذ لم تكن التليفونات المحمولة قد شاعت وانتشرت، وظلَّ الأمر كذلك إلى أن سمعنا صوتًا بعيدًا يردُّ علينا من الطَّابق الثَّامن قائلاً: «إن هذه المصاعد إلكترونية ولا يمكننى التَّحكُّم فيها حاليًا، وسوف نرسل فى استدعاء المهندس الخبير والمختص بتركيبها وتشغيلها».
أخذنا المصعد من الدور الأرضى إلى الطَّابق التَّاسع عشر، ولم نكن نعلم أن المصاعد مازالت تحت الاختبار وقيد التَّسليم.
ولقد مضى بنا الوقت ساعة كاملة أظن أننى كدت أفقد فيها الوعى، وكان د.أبوشادى الروبى أكثرنا ثباتًا وطلب منى الهدوء لأن الانفعال يزيد التوتر، خصوصًا أننا كنا فى شهور الصَّيف ولم يتم إدخال تكييف هواء أو تركيب مروحة فى المصعد، وتصورتُ أن تلك الساعة دهر كامل، وأننا نكاد نختنق والعرق يتصبب مِنَّا فيزيد الأمر توترًا واضطرابًا، حتى وصل المهندس وبدأ يبحث فى سجل الأرقام الإلكترونية معه ليُحرِّك المصعد، وعندما جرى إنزاله إلى الطَّابق السابع وتمكن المهندس من فتح الباب شعرتُ بأننى قد وُلدت من جديد، وأننى قد فقدت جزءًا من الجهاز العصبى الذى يخشى المصاعد بطبيعته، وقديمًا قالوا: «من يخاف من العفريت يطلع له».
وأتذكر أن حادثًا مماثلاً قد حدث يوم افتتاح جامعة سنجور فى الإسكندرية بحضور الرئيس الفرنسى الراحل فرنسوا ميتران، والرئيس السنغالى شاعر إفريقيا ليوبولد سنجور، ومعهما الرئيس الأسبق مبارك وعدد من كبار الضيوف تجمعوا فى مصعد كبير داخل البناية الضَّخمة التى يقع فيها مبنى الجامعة، وقد حاولت أن أركب معهم فى المصعد ولكنهم قالوا إن العدد كافٍ، ولأننى أصغر الموجودين درجةً فقد آثرت الصُّعود بالسلم، فى وقت كانت الصِّحة فيه تسمح بذلك! وإذا بنا نُبلغ بأن المصعد قد توقف بين الأدوار، وكان الحر شديدًا والجو خانقًا، وقد عرفت أن «ميتران» قد تصبب عرقًا، وأن «سنجور» -الذى كان قد تجاوز الثمانين- كاد يُصاب بالإعياء، بينما كان الرئيس المصرى رابط الجأش يوبِّخ مساعديه على هذه الغلطة؛ لأن المصعد لابد أن يكون مضمونًا وجرى تجريبه قبل استخدام هذه الشخصيات المهمة له، وقد استغرق الأمر أكثر من ثلث ساعة كانت هى الأطول فى تاريخ مؤسسة الرئاسة فى ذلك الصَّيف ورطوبته العالية فى مدينة الإسكندرية، ولقد حمدتُ الله أننى لم أكن معهم لأننى كنتُ لا أتمكن حتى عن التَّعبير عن ذعرى أمام هذه الشَّخصيات الكبيرة.
وفى مرَّةٍ ثالثةٍ كُنا فى مدينة نيويورك، وكان البابا شنودة الثالث -رحمه الله- على موعد لقاء مع الرئيس فى الطابق رقم 106، وطلب منى الرئيس أنا وبعض المسئولين أن نبقى فى الدور الأرضى فى انتظار قداسة البابا الرَّاحل لمرافقته إلى مقر اللقاء، ودخلنا المصعد الكبير، وكان عددنا يزيد على عشرين شخصًا، وقد جرى بنا المصعد فجأة يقطع المائة وستة طوابق فى عدة ثوانٍ، وشعرتُ وقتها ومعى الكثيرون أن قلوبنا تسقط فى أقدامنا، وقد ترسَّخ لدىَّ يومها سببٌ جديدٌ لخشية المصاعد السَّريعة، ولكننى لا أنسى ما حييت ذلك المصعد الصغير البطىء الذى استخدمته ذات مساء فى مدينة فيينا لمشاهدة صواريخ احتفالات العيد الوطنى فى قمة المبنى المرتفع لأكثر من عشرين طابقًا، ولقد بلغ من بطء المصعد أنه وصل إلى الطابق العشرين بعد ما يقرب من عشر دقائق، لدرجة أننى لم أكن أدرك هل يتحرك المصعد الضيق أم هو ثابت فى مكانه، خصوصًا أن مؤشر الضوء الذى يدلُّ على أرقام الطَّوابق لم يكن مضيئًا، وقد شعرت خلال تلك الدقائق العشر فى ذلك المصعد المُحكم الإغلاق أننى أودِّع الحياة، وانتابتنى الهواجس من كلِّ اتِّجاه، خصوصًا وأن المبنى لم يكن مزدحمًا، وكانت هناك عدة مصاعد ويمكن نسيانى فى هذا المصعد البطىء دون مُنقذٍ فى تلك الليلة التى لا أنساها.. ألم أقل لكم إننى مصابٌ بـ«فوبيا» المصاعد والأماكن المرتفعة!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 262
تاريخ النشر: 24 يناير 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d9%81%d9%88%d8%a8%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b5%d8%a7%d8%b9%d8%af-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b1%d8%aa%d9%81%d8%a7%d8%b9%d8%a7%d8%aa/