أتأمل جهاز المحمول من حين لآخر وأتساءل كيف كنا نعيش قبل ظهوره؟ إذ لم يمض إلا عشرون عامًا أو ما يزيد قليلًا على بدء انتشاره فى بلادنا، لقد كانت حياتنا طبيعية وتمضى فى وقتها دون شكوى ولكننا اليوم إذا نسى أحدنا جهاز المحمول فى منزله فإن يومه يبدو غريبًا ومضطربًا وتثور فيه المشكلات لأننا تعودنا عليه وأصبح جزءًا من حياتنا، وقس على ذلك عشرات الأجهزة الحديثة التى دخلت حياتنا فى العقود الأخيرة، فالمذياع نقل القرية نقلة كبيرة، والتلفاز نقل المدينة نقلة أكبر بل إن حياتنا الاجتماعية قد تأثرت بالتأكيد من تلك الاكتشافات العلمية والاختراعات المتتالية، أنا شخصيًا عاصرت الراديو بالبطارية السائلة التى يتم شحنها كل عدة أيام ثم بالبطارية الجافة التى يجرى شراؤها من وقت لآخر حتى جاء عصر (الترانزيستور) وهو مقترن بعصر عبد الناصر عندما كانت صيحاته تصل إلى الوديان العربية والتلال الإفريقية تنشر الفكر القومى وتبشر بالأمل الوحدوي! بل إن الفلاح المصرى وقتها كان يأخذ معه الترانزيستور إلى الحقل يستمع منه إلى ما يجرى فى بلاده وخارجها فأسهم ذلك الجهاز الصغير فى تثقيف الناس وتوعية الجماهير وربط بين القاصى والدانى فى منظومة إعلامية تصدرها صوت أحمد سعيد أحيانًا وشدو أم كلثوم أحيانًا أخرى وغناء المطرب ذكى الصوت عبد الحليم حافظ وغيرهم، أليس من حقنا أن نتساءل إذا كانت هذه الاكتشافات والاختراعات قد أسهمت فى تسيير شئوننا وتسهيل حياتنا؟ أفلا نظن أنها قد انتزعت فى الوقت نفسه الدفء من جلساتنا وأضرت بالعلاقات الاجتماعية بيننا؟ إن المرء يدخل أحيانًا إلى أحد البيوت فيجد كل شخص فى الأسرة منكفئًا على جهاز يعيش معه مقلبًا بين صفحات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى التى غزت العقول وسيطرت على الشباب واجتاحت أمامها كثيرًا من الهوايات الاجتماعية والرياضية بل وعصفت بعنصر الوقت وأحالت حياة الناس إلى فضول يصل إلى حد التلصص وقتلت تمامًا خصوصية الناس واقتحمت البيوت وأفشت الأسرار، إن التكنولوجيا المعاصرة قد أحالت حياتنا إلى شيء مختلف عما كان عليه آباؤنا وأجدادنا بل عما كان عليه جيلنا ذاته منذ نصف قرن، لقد كنت طالبًا فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بـجامعة القاهرة وأسكن فى شقة بالدقى مع زميلى د.محمد عز الدين عبد المنعم الذى أصبح مساعدًا لوزير الخارجية فكنا نستذكر دروسنا ثم نفتح المذياع فى الرابعة عصرا حيث كانت هناك ما تسمى بإذاعة أم كلثوم تنطلق من جبل المقطم بإشراف الحرس الجمهورى فى محاولة للارتقاء بمشاعر الناس وتهذيب أذواقهم وشغل أوقاتهم، لقد كان عصرًا مختلفًا بكل ما له وما عليه فلا أستطيع أن أزعم بحكم الحنين إلى الماضى وعبق التاريخ أن الأجيال الحالية تعيش حياة أفضل أو أسوأ فالمفاضلة غير واردة، ولكن الاختلاف هو المؤكد إذ لم يعد هناك ما يدفع الصديق أن يزور صديقه أو يعدل موعدًا أو يرتب أمرًا فالمحمول حسم الأمر ولكننى أربط أحيانًا بين ذلك وبين ارتفاع معدلات الإصابة (بـالزهايمر) وقد كان صديقى الراحل د.أحمد زويل يحدثنى عن حلمه فى الحصول على نوبل الثانية بالتدخل فى دقائق خلايا المخ بحسابات الفيمتو ثانية لاكتشاف علاج لمرض (الخرف) الذى أصاب الناس بدءًا من محمد على مؤسس مصر الحديثة وصولًا إلى رونالد ريجان الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، وقد كنت أمزح مع د.أحمد زويل قائلًا: بالله عليك أسرع فى بحوثك أنت وفريقك الأكاديمى حتى تلحقنا بالعلاج قبل أن يعصف بنا الداء! وكان يقول لي: إن ارتفاع معدلات الأعمار هو الذى أشعرنا بارتفاع معدلات الإصابة بهذا المرض الذى يحيل الإنسان فى آخر أيامه إلى شبح لا يعرف أحدًا ولا يتذكر شيئًا، وقد قال لى ذات مرة: إن التهاب غدة (البروستاتا) لابد أن يتحول إلى سرطان لدى كل الرجال فى سنٍ معينة قد تكون قريبة جدًا أو بعيدة تمامًا بحيث يسبق الموت أحيانًا ذلك التوقع الحتمي، ولقد كانت تعجبنى كثيرًا تلك الحوارات التى يطرحها عالم كبير بحجم زويل عن العلاقة بين العلوم التطبيقية والتقدم فى مجال الطب فتلك هى الخدمة الإنسانية الرفيعة التى تتطلع إليها البشرية، وأتذكر أننى سألت د.أحمد نظيف عندما كان وزيرًا للاتصالات منذ أكثر من خمسة عشر عامًا عن تأثير شيوع المحمول على أزمة المواصلات إذ كنت أتصور أو أتوهم أن وجود ذلك الجهاز الصغير سوف يعفى أصحابه من تحركات كثيرة داخل المدينة أو (مشاوير) هنا وهناك حيث يمكن تحقيق المطلوب بمكالمة تليفونية لا تستغرق دقائق، وقد قال لى د.نظيف يومها: إنه لا توجد دراسات تؤكد ما تقول لأن هناك عوامل أخرى لابد من تثبيتها عند المقارنة وفى مقدمتها التزايد السكاني، وما أكثر الأزمات العائلية والخناقات الزوجية التى تسبب فيها المحمول فلقد كنا قبل ظهوره نخرج من بيوتنا صباحًا ثم نعود إليها فى آخر اليوم بكل براءة! أما الآن فالزوجة تلاحق زوجها فى كل مكان والابنة تطارد أباها والابن يتابعه أينما ذهب، ألم أقل لكم إن عصر الخصوصية قد انتهى وأننا جميعًا مكشوفون بقصد أو بغير قصد!؟ أو بعد هذا لا نقول إن التكنولوجيا قد أدت إلى تحول اجتماعى كبير وأنماط سلوكية مختلفة جعلت حياتنا تبدو وكأنها عصر فارق لا يشبه ما مضي؟ ومع ذلك لابد أن نقرر أن التكنولوجيا نعمة، وأن التحول الاجتماعى ضرورة، وأن التلازم بينهما مؤشر لتطور العالم وازدهار الحياة وتقدم البشرية.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47629
تاريخ النشر: 2 مايو 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/592203.aspx