يواكب هذا العام مضىّ قرن كامل على ميلاد الموسوعى المصرى الراحل الدكتور ثروت عكاشة، رائد الثقافة المصرية المعاصرة ووزيرها لأكثر من مرة، وهو العالم والأديب والفنان والمؤرخ والموسيقار، الذى ينطبق عليه قول شاعر العرب المتنبى: (الليل والخيل والبيداء تعرفنى * والسيف والرمح والقرطاس والقلم)، فهو ابن القوات المسلحة المصرية، وواحد من ألمع الضباط الأحرار وأقربهم إلى قلب عبد الناصر قائد الثورة، عمل ملحقًا عسكريًا فى بعض الدول الأوروبية ومنها باريس، ثم سفيرًا لمصر فى إيطاليا، وقد كان مغرمًا منذ صدر شبابه بالفنون والآداب، وقطع شوطًا كبيرًا فى دراستها، كما كان مستمعًا متفردًا للموسيقى الكلاسيكية الغربية، وباحثًا دؤوبًا فى ملفات المتاحف وكتب الفن، وقد تأثر كثيرًا ببعض الموسيقيين الغربيين.
وفى مقدمتهم (فاجنر) الذى كان الموسيقار المفضل لدى أدولف هتلر، مع الفارق الضخم بين الشخصيتين، زعيم النازية ورائد الثقافة المصرية، فالأول كان معولًا للدمار والخراب، بينما كان الثانى بلسمًا لجراح البشر وطبيبًا يعالج جيوب التخلف ويفتح أبواب التنوير، وسوف نجد فى حياة ثروت عكاشة محطات متعددة، تكفى كل واحدة منها لكى تصنع منه عملاقًا كبيرًا لا ينتهى دوره ولا يخفت ضوؤه، ويكفى أن اليونسكو باعتبارها المنظمة المسؤولة عن الثقافة والعلوم والآداب، قد وضعت ثروت عكاشة فى مكانه اللائق، فهو صاحب أكبر مشروع ارتبط بتلك المنظمة فى تاريخها بإنقاذ آثار النوبة فى عمل جبار يكفى لأن يعطى ثروت عكاشة مكانة دولية ومحلية، لا تغيبان عن وعى المؤرخين للأحداث الثقافية الكبرى فى العالم، وهو أيضًا ثروت عكاشة الذى أنشأ أكاديمية الفنون التى سدت فراغًا ضخمًا فى الثقافة الفنية والدراسات المتصلة بالموسيقى والمسرح والسينما، لكى تكون جسرًا بين الفنون والآداب على تنوعها وكافة ألوانها، وهو الذى أنشأ أوركسترا القاهرة السيمفونى، وغيره من الركائز الفنية الكبرى التى نفاخر بها ونباهى حتى اليوم، وعندما رحل عبد الناصر عام 1970 تردد اسم ثروت عكاشة مرشحًا لكى يكون سفيرًا لمصر فى باريس، ولكنه لم يتحمس للمنصب وجرى تعيينه مستشارًا ثقافيًا لرئيس الجمهورية الجديد أنور السادات، وعندئذ تفرغ المفكر الكبير لممارسة أعماله الكبرى فى البحث الأكاديمى لتاريخ الفنون، وأصدر موسوعته الخالدة (العين تسمع والأذن ترى).
وما زلت أذكر كيف كان يهاتفنى وأنا سفير لمصر فى العاصمة الأوروبية للفنون، وأعنى بها فيينا التى كانت تعرف قيمة ذلك الرجل حق المعرفة، وتضعه فى مكانه اللائق بين صفوف المثقفين العظام فى العصر الحديث، وكان يطلب بعض الصور التاريخية من المتاحف النمساوية، وكنت أفعل ذلك بنفسى احترامًا له وحبًا فيه، والغريب أنه كان يصر على أن يبعث لى بالدولارات القليلة التى أكون قد أنفقتها ثمنًا لتلك الصور، وقد كان الراحل العظيم يؤثرنى بالكثير من محبته ورعايته طوال حياتى العملية، وعندما تركت مؤسسة الرئاسة وجدت صوته المهذب الرقيق يهاتفنى، ويقول أنت على بداية الطريق لمشروعك الثقافى الحقيقى بعيدًا عن المناصب الإدارية والمواقع السياسية، ويبدو أن الجينات العبقرية تكمن فى بعض العائلات؛ لذلك لم يكن غريبًا أن شقيقه الأصغر د. أحمد عكاشة هو عميد أساتذة الطب النفسى لا فى مصر والشرق الأوسط، بل ربما على المستوى العالمى كله، ولقد استضافته مكتبة الإسكندرية شقيقًا للراحل الكبير فى احتفالها بمئويته.
فكان وجود شقيقه والسيدة الفاضلة ابنة ثروت عكاشة بمثابة تكريم للمكتبة فى احتفالها بالعام المائة على ميلاده، وهو الاحتفال الذى شرفته بالحضور وزيرة الثقافة د. إيناس عبد الدايم، وكان يومًا رائعًا وأمسية لا تنسى، عزفت فيها أوركسترا المكتبة بعض الألحان الغربية التى كان يعشقها د. ثروت عكاشة، الذى سوف نظل نذكره على امتداد تاريخنا الثقافى كله، وفى مجاملة راقية قامت وزيرة الثقافة المصرية بالعزف على آلتها الموسيقية على نحو أبهر الحاضرين ونال تقديرهم الزائد للفنانة قبل أن تكون وزيرة، وإذا كان العملاق الكبير زعيم فرنسا ومنقذها فى أزماتها الكبرى شارل ديجول قد اصطفى أندريه مالرو لكى يكون وزيرًا لثقافته ومستشاره فى الشؤون الفكرية، فإن عبد الناصر قد فعل نفس الشىء عندما اصطفى ثروت عكاشة لذات المهمة، وجعله مستشاره الدائم للشأن الثقافى العام فى الداخل والخارج.. وهو الذى اهتم بقصور الثقافة وشيد دعائم مراكزها البحثية، وربى أجيالًا من الفنانين العظام، الذين يذكرون أفضاله ويعرفون قيمته الكبرى ومكانته الحقيقية، فلقد كان بحق هو رب السيف والقلم، رحمه الله رحمة واسعة، بما أسدى للثقافة الوطنية والعالمية من أياد بيضاء لن تنساها الأجيال القادمة مهما طال عليها الزمن.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2310802