تألق الطب فى مصر القديمة، فرعونية وإغريقية ورومانية، ثم تألق فى ظل الحضارة العربية لعدة قرون حتى جاء (محمد علي) ليبنى مصر الحديثة ويؤسس لدولة مركزية قوية فى الركن الشمالى الشرقى للقارة الإفريقية امتدادًا لغرب آسيا والساحل الشمالى للقارة الأم، وفى غمرة عصر النهضة التى دفع بها (محمد علي) ظهرت مدرسة الطب المصرية ولمعت أسماء أشهرها (كلوت بك) كما تم بناء المشافى والمصحات وأشهرها (قصر العيني) وبرزت أسماء لامعة فى تاريخنا لنوابغ من أمثال الدكاتره على إبراهيم ونجيب محفوظ وأبو ذكرى والكاتب ومورو وغيرهم ممن ارتبطت أسماؤهم بالصحة والعلاج فى مصر التى قدم إليها كل من استعصى عليه داؤه أو عز عليه دواؤه فكانت مصر بحق هى المركز الطبى الكبير فى المنطقة فضلًا عن آلاف الأطباء الذين صدرتهم إلى دول المنطقة عربية وإفريقية، بل ولمعت أسماء كبيرة لأطباء مصريين فى الخارج يتقدمهم جراح القلب العالمى مجدى يعقوب كما انتشر الأطباء المصريون فى كل مكان، ومازلت أتذكر أننى عندما ذهبت إلى لندن طالبًا للدكتوراة أن الطبيب المصرى المتقدم للدراسات العليا فى المملكة المتحدة كان يعفى من امتحان المعادلة لأن مستواه يرقى إلى مستوى زميله البريطانى أما طالب الطب الهندى فكان يعفى فقط من امتحان اللغة الإنجليزية ويلزم بالحصول على شهادة معادلة ترفعه إلى مستوى الطبيبين البريطانى والمصرى ولم يكن ذلك منذ زمن بعيد ولكن كان الأمر كذلك حتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ولابد أن اعترف أن الطبيب المصرى مازال متميزًا ولكن مهنة الطب تدهورت! فمعظم المستشفيات العامة لا تليق بسبب حالة التردى والقدم والإهمال الذى أصابها، كذلك فإن التمريض فى مصر لا يرقى إلى مستوى الطبيب المصرى فأصبحت هذه نقطة ضعف ملموسة فى المؤسسات العلاجية المصرية فضلًا عن انقسام المراكز الطبية والمستشفيات بين وزارتى الصحة والتعليم العالي، ولا شك أن المستشفيات الجامعية تبدو أفضل حالًا ولكن الأمر لا يؤخذ على إطلاقه فالمشكلة عامة والوضع متدهور، ولكى نتأكد أن الطبيب المصرى مازال على تميزه وتفوقه يكفى أن نرى ما يحققه إذا خرج إلى إحدى الدول الغربية وكيف أن نجمه يسطع واسمه يلمع والنماذج فى ذلك كثيرة بغير حدود ولعلى أطرح هنا الملاحظات التالية:
أولًا: ليت أشقاءنا العرب قد أدركوا مبكرًا أنه كان يمكن استثمار الطبيب المصرى فى مراحل سابقة بإقامة مراكز طبية كبرى فى مصر بتمويل عربى بحيث تفتح أبوابها للمصريين وأشقائهم دون تفرقة أو تمييز لأن الطب مهنة إنسانية والبشر متساوون أمام الطبيب وفقًا لقسم (أبى قراط)، ولعلى اعترف هنا أن دولًا عربية كثيرة قد حققت تميزًا علاجيًا فى العقود الأخيرة وأذكر هنا المملكة العربية السعودية بإمكاناتها الهائلة والأردن بأطبائها المتميزين وبعض دول الخليج باستقطابها أفضل العناصر الطبية فضلًا عن لبنان والمستشفى الأمريكى فيها إذ إن صلة هذا البلد الجميل بالغرب تجعله أحيانًا يتصدر المشهد لأسباب تاريخية وجغرافية، ورغم كل هذه المنافسات يظل الطب المصرى مرموقًا بقدراته ولكن متراجعًا بإمكاناته!
ثانيًا: لا يجادل اثنان فى أن الطامة الكبرى التى لحقت بالطب المصرى ومكانته هى ذلك الانفجار السكانى الذى جعل الدولة غير قادرة على تقديم الخدمات فى الصحة والتعليم والنقل بنفس مستوياتها السابقة فى ظل الأعداد الكبيرة التى تفد كل عام بالإضافة لسكان مصر الذين يتزايدون بمعادلات هندسية مخيفة، كذلك فإن تزايد عدد كليات الطب الحكومية والخاصة قد أدى أحيانًا إلى بعض الاهتزاز فى كفاءة نسبة من الخريجين الجدد.
ثالثًا: إن التعليم الطبى هو جزء من التعليم المصرى عمومًا يتأثر به ويتراجع مع تراجعه وهذا ما حدث لدينا حتى أصبحنا أمام مستويات متدنية من الناحية العلمية رغم ارتفاع معدلات الدرجات ظاهريًا بسبب اضطراب النظام التعليمى عمومًا فى بلادنا وقد حدث انفصال بين التفوق الدراسى والنجاح فى الحياة العملية، فالكر والفر بين صفحات المذكرات والملخصات قد يؤدى إلى درجات أعلى ولكنه لا يصنع طبيبًا ممتازًا!
رابعًا: إن تزايد معدلات الأعمار وانخفاض معدلات الوفيات والقضاء على الكثير من الأمراض الفتاكة قد ألقى بعبء آخر على الطبيب العصرى حتى ظهرت تخصصات جديدة مثل طب كبار السن والطب الذرى والطب الرياضى بل إن فروعًا من العلوم الأخرى قد بدأت ترتبط بالتعليم الطبى فأصبحت لدينا الهندسة الطبية وفروع الطب النفسى التى تقدمت كثيرًا فى العقود الأخيرة.
خامسًا: إننا يجب أن ننظر فى مصر إلى ما يمكن تسميته (طب الفقراء) بمعنى أن تكون مبانى المستشفيات متواضعة المظهر ولكنها نظيفة تمامًا من الداخل مع التركيز على الأساليب العلاجية دون الإسراف فى المداخل الرخامية ومكاتب المديرين على حساب رعاية المرضي، ولقد شهدت شيئًا من ذلك فى أثناء سنوات عملى فى الهند فوجدت أن All India Institute)) يبدو مبنًى متواضعًا وإن كان كبيرًا ولكن الخدمة العلاجية داخله تقف على قدم المساواة مع نظريتها فى الدول المتقدمة.
إننى لست متشائمًا ولا من دعاة جلد الذات ولا من أولئك الذين يؤمنون بأن الماضى أفضل من الحاضر ولكننى أطلق هذه الصيحات التحذيرية حتى لا تفقد مصر مدارسها التاريخية بدءًا من مهنتى الطب والهندسة وصولًا إلى مدرستى الرى والسك الحديدية اللتين ارتبطتا بمصر فى القرنين الأخيرين.. إنها مصر دولة المؤسسات وبلد المدارس المتخصصة فى العلوم والفنون والآداب وفى مقدمتها مدرسة الطب المصرية.
جريدة الاهرام
16 مايو 2017
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/594357.aspx