مازالت أصداؤها ماثلة أمامنا، وتظل آثارها جاثمة على صدورنا حين استدرجت إسرائيل الدول العربية المجاورة إلى حرب مدبرة انتهت بهزيمة للعرب دفع فيها الجيش المصرى ثمنًا غاليًا من رصيده التاريخى إذ لم يتح له أن يدخل حربًا حقيقية بسبب ملابسات وظروف كانت قائمة فى ذلك الوقت، لقد تصور العرب أن ما يحدث هو أقرب إلى المظاهرة السياسية منها إلى المواجهة العسكرية فجرى استدراج الجيش المصرى إلى مواجهة تستهدف تحطيم وضرب المشروع القومى الذى كان يبشر به ويقوده جمال عبد الناصر، ولا يمكن قراءة ما جرى عام 1967 دون أن ندرك الأبعاد التاريخية للضغوط التى تعرضت لها مصر عبر تاريخها الطويل والمنعطفات الصعبة التى مرت بها فى فترات مختلفة ولنكتشف دون جهد كبير أن المشروع المصرى النهضوى معرض دائمًا لضربات خارجية بقصد تحجيم مصر وإعادتها إلى حجمها المطلوب ويهمنى هنا أن نتأمل الملاحظات الآتية: أولًا: إننى أرى فاجعة الخامس من يونيو 1967 من منظور تاريخى متواصل لوحدة التاريخ المصرى ككل، فلقد تعرضت تلك الدولة العريقة لخبطات عبر العصور كلما شعر خصومها أو حتى جيرانها أنها توشك على التحليق إلى أعلى وهو أمر يزعج الجميع ويدق ناقوس خطر ويثير المخاوف لدى الأشقاء والأصدقاء على حد سواء! فمصر كانت وسوف تظل محط الأنظار ومركز الاهتمام فضلًا عن ضخامة عدد سكانها وقوة جيشها وعراقة تاريخها وتميز أهلها، وأنا أرى نكسة 1967 فى هذا السياق، فالقضية ليست الصراع العربى الإسرائيلى وحده ولكنها استهداف للدولة التى تمثل رأس الحربة فى المنطقة على مدى التاريخ. ثانيًا: لا أنظر إلى هزيمة يونيو باعتبارها حدثًا عسكريًا ولكننى أراها من منظور سياسى بحت حيث تبدو لى مواجهة حقيقية مع المشروع القومى الذى تبناه عبد الناصر ورأى فيه الغرب وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بالطبع أنه تهديد لمصالحهم وتحريك للمنطقة العربية فى اتجاه ثورى وطنى وتحررى يزعج الطامعين فيها والمتطلعين إلى السيطرة عليها، وأنا أظن أن تراجع المشروع القومى الناصرى قد بدأ بالضربة العسكرية الإسرائيلية التى غيرت موزاين القوى وقلبت المعايير فى المنطقة العربية بل وفى بقاع أخرى من العالم تأثرت بما جرى وبرزت ردود فعلها وفقًا لذلك، وليس ذلك غريبًا على مصر فقد قام الغرب بتحجيم إمبراطورية محمد على بموجب اتفاقية لندن عام 1840وهو ذاته الذى ضرب المشروع القومى عام 1967، وإن كان يتعين علينا أن نسجل هنا أنه رغم الهزيمة العسكرية فإن الصمود المصرى والعربى عمومًا قد غير الصورة وجعلنا أمام مقاومة باسلة تمثلت فى حرب الاستنزاف التى تعتبر سجلًا رائعًا للشعب وللجيش فى مصر، ويكفى أن نتذكر أن الجندى المصرى الباسل قد خاض معركة (رأس العش) بعد أيام قليلة من هزيمة يونيو، وهو أيضًا الجندى المصرى الذى أغرق المدمرة (إيلات) كاشفًا عن بسالته المعتادة امتدادًا لتاريخه العريق وبطولاته المشهودة. ثالثًا: لا أشك فى أن مؤامرة 1967 كانت عقابًا لنظام الحكم فى مصر وتأثيراته التى امتدت إلى العالمين العربى والإسلامى وإلى القارة الإفريقية بل ودول ما كان يسمى بالعالم الثالث، والذى يتابع أحداث السنوات السابقة يدرك بوضوح أن صوت الناصرية كان قد أصبح عاليًا كما أن الزعيم العربى القومى قد خرج من حدود بلاده ليحارب فى اليمن على غير إرادة الغرب الذى شعر بأن عبد الناصر يتحداه بسياساته ومواقفه وشعاراته الملتهبة، ويكفى أن نتأمل ما جرى فى المؤتمر الصحفى الذى عقده الرئيس المصرى فى 23 مايو 1967والذى يبدو واضحًا منه أنها مواجهة سياسية لا تتضمن توقعات عسكرية إذ كان هناك إحساس عام بأن الحرب لن تقوم وأن الأمر لا يعدو أن يكون مظاهرة سياسية لن تؤدى بالضرورة إلى انفجار كامل بالمنطقة، بل إن عبد الناصر كان قد قرر إيفاد نائبه السيد زكريا محيى الدين إلى واشنطن يوم 5 يونيو ولكن القرار التآمرى كان قد سبق كما أن العملية العسكرية كانت قد أحكمت، وهنا أسجل أن عبد الناصر لم يكن حاكمًا نظريًا يحلق فى (يوتوبيا) الأحلام السياسية ولكننى أراه حاكمًا (براجماتيًا) يقرأ الواقع ويتصرف بمعطياته فى حدود ما أتيح له من معلومات صادقة ورؤية واضحة. رابعًا: لا شك أن المشروع الإسلامى كان كامنًا ينتهز الفرصة للانقضاض على السلطة بعد مواجهة دامية مع عبد الناصر خصوصًا فى عامى 1954 و1965 كما أن الجماهير العربية كانت مهيئة لاستقباله إذ تصور الكثيرون أن الهزيمة جاءت عقابًا إلهيًا للابتعاد عن الدين والدعوة إلى الاشتراكية والخروج على روح الإسلام ـــ من وجهة نظرهم ـــ فظهرت السيدة العذراء فى سماء حى (الزيتون) بالقاهرة كما اختار عبد الناصر مناسبة دينية لأول ظهور له بعد النكسة مباشرة وأظن أن ذلك كان فى مسجد السيدة زينب بالقاهرة، لقد تولد إحساس عام بضرورة اللجوء إلى الدين وتبنى مشروع إسلامى شعبوي. خامسًا: مازلنا نرى آثار يونيو حولنا ولكننا ندرك أن التاريخ يتسع دائمًا للانتصارات والانكسارات ويمتص نتائج الحروب ويحتوى الهزائم، كما أننا قد تعلمنا من التاريخ المصرى أن الدولة عصية على السقوط مهما تكن التحديات والضغوط والمؤامرات.
سوف تظل نكسة يونيو تحولًا ضخمًا فى تاريخنا الحديث ومازالت أصداؤها قابعة فى الأذهان رغم مضى نصف قرن من الزمان!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47664
تاريخ النشر: 6 يونيو 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/597688.aspx