لقد قالوا إن الموسيقى هى اللغة العالمية الأولي، وقال آخرون إن الفن هو صناعة الحياة مثلما هو الإرهاب صناعة الموت ومثلما هو العنف لغة التطرف ولهجة الدمار لذلك فإن الإنسان المعاصر فى مواجهة الجرائم الإرهابية والأفعال الدموية والتصرفات غير الإنسانية يجد نفسه فى اتجاه تلقائى نحو كل ما يرقى بالحس البشرى والمشاعر النبيلة، ولعل وظيفة الفن الأولى هى الارتقاء بالذوق العام والارتفاع بالمجتمعات نحو مدارج تسمو كثيرًا فوق صراعات الحياة ومشكلاتها اليومية، فلا يمكن لإرهابى أن يتذوق الموسيقى كما يستحيل أن يكون هناك فنان أصيل يتحول إلى متطرف يؤمن بالعنف ويبرر القتل ويقف فى عداء واضح مع الإنسان والإنسانية وضد البشر والحضارة، ولقد أدهشنى كثيرًا منذ عدة أعوام أن صديقًا كان يؤلف قطعًا موسيقية عالمية وأصبح اسمًا معترفًا به فى دول أخرى حتى أن السويد أقامت له تكريمًا خاصًا ولكن فوجئت به منذ بضع سنوات وهو يمضى فى طريق لا يخلو من الغلو والانخراط فى سلك العداء للعصر ومقتنياته في ظل دعاوى دينية لا تعتمد على صحيح الإسلام ولا سند لها من الحق والحقيقة، وبقدر ما كان ذلك النموذج يؤرقنى فإن نموذج الضابط الحر ثروت عكاشة وزير الثقافة الأسبق الذى شغل مناصب رفيعة وأشرف على أكبر عملية لنقل الآثار فى التاريخ هو نموذج يدعو للانبهار، ويبدو أن الحس الإنسانى لا يتجزأ وأن المشاعر الراقية لها جينات خاصة فكلما التقيت بالصديق الدكتور أحمد عكاشة عالم الطب النفسى العالمى تذكرت أخاه الأكبر ذلك الفنان عالى القدر رفيع الشأن الذى عاصرته وتحدثت إليه وتعاملت معه وكان يبهرنى أن يكون ابن الحياة العسكرية نموذجًا فريدًا فى تذوق الفنون التشكيلية والموسيقية والغنائية مع احترام للآخر وإعلاءٍ لشأنه، نعم .. لقد كان ثروت عكاشة ثروة قومية حقيقية ومازلت أتذكره وهو يطلب منى بعض الصور التاريخية من المتحف الكبير فى فيينا ليؤرخ لها ويضيف إلي وجودها متعة المعرفة مع وجود رغبة صادقة فى الالتزام بالحق والحقيقة والولاء للمعرفة، فإذا تطلعنا جنوبًا بعيدًا عن حوض البحر المتوسط وحضاراته لننظر إلى الجنوب وما يليه من أرض إفريقية بثقافات ثرية ومتعددة، لو فعلنا ذلك لاكتشفنا أن الكلمة أمضى سلاح ضد التطرف والتعنت والتشدد، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:
أولًا: إن نظرتنا إلى الفن لا تزال دون المستوى بدليل أننا ننظر إلي الفنون باعتبارها عملًا هامشيًا تقوم به وزارة الثقافة ومن خلفها الإعلام والتعليم بينما الأصل هو أن يكون الحدث الثقافى والقائمون عليه فى مقدمة من يتفاخرون بما جرى لأن أغلى سلعة تصدرها مصر هى السلعة الثقافية، ولقد جاء حين من الدهر على الثقافة المصرية ازدهرت فيه وقادت المجتمع إلى الأفضل ثم انتكست تلك الثقافة بفعل أحداث كثيرة ونتيجة لأسباب متعددة، وإذا كانت وظيفة الفنون تثقيفية وترفيهية إلا أن أقدم ما فى رسالة الإنسان على الأرض هى بصماته على مسرح الفنون مهما كانت التداعيات والظروف، دعنا نتذكر المسرح الرومانى على شاطئ المتوسط!
ثانيًا: إن المصرى القديم عرف الإبداع وعشق الفنون وسجل على جدران المعابد الآلات الموسيقية الفريدة والرقصات الشعبية الشائعة كما أن التراث الحضارى المصرى يحمل فى جوهره أرقى الفنون وأكثرها تأثيرًا فى حياة المصريين وطقوسهم اليومية، بل إن الديانات التى عرفتها مصر عبر تاريخها قد اتخذت من الفن أداة للترتيل أحيانًا والغناء أحيانًا أخرى حتى تصل إلى مشاعر الناس رسائل الإيمان ومفاهيم الرسالة الدينية، وأنا أدعو الآن إلي نهضة فنية شاملة تعيد إلى الأذهان أمجاد الفن المصرى وتدفع به إلى موقعه الطبيعي، وإذا كان البعض يرى أنه قد تراجع بتأثير تقدم الآخرين وحيازتهم لإمكانات مادية قد لا تكون متاحة لدينا إلا أن الروح المصرية تملك وجدانًا خاصًا يستطيع أن يلهم الآخرين مذاقًا خاصًا يجعل من الثقافة المصرية سلعة غالية نمضى فى تصديرها إلى الخارج كالعهد بها منذ مئات السنين، وعلى الجميع أن يتذكروا أن الأزهر الشريف ذاته كان مصدرًا لعشرات الفنانين الكبار من أمثال الشيوخ سلامة حجازى وسيد درويش وزكريا أحمد وسيد مكاوى وغيرهم من أساطين الفن المصرى الرائع.
ثالثًا: إن الموجات الإرهابية التى يعانى منها العالم تحتاج إلى قوة ناعمة معادلة لذلك التيار الغاشم الذى يعادى الإنسان ويحاول أن ينال من وجوده فيقتل ويذبح بدلًا من أن يغنى ويطرب، وعندما قال الشاعر (أعطنى الناى وغنى فالغنا سر الوجود) لم يكن مجافيًا للحقيقة ولا مبالغًا فى التوصيف إذ إن الأصل فى الإنسان هو الإيقاع المنتظم والطرب الراقى الذى يصل إلى مراتب عليا من الصفاء النفسى والسمو الروحى بل إن الحركة الوطنية فى معظم دول العالم كانت مدعومة بالفنون التى جعلتها تقف فى صلابة أمام التحديات والمعوقات والمصاعب، إن جزءًا كبيرًا من صناعة العصر الناصرى - على سبيل المثال - تمثلت فى الدعم الفنى الذى تلقاه الرئيس الراحل وظهور أصوات ارتبطت به وبثورته، ولنتذكر أعيادها كل عام وصوت عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم من رموز الفن المصرى فى القرن العشرين. إننى أهدف من هذه السطور أن أقول لكل ذى بصيرة إن الفن هو ملاذنا فى مواجهة ما نرى من بشاعة وانحطاط وما يحيط بنا من جرائم وإحباطات، فلنمض على الطريق الذى لا بديل عنه وهو إحياء القوى الناعمة لبلدنا العريق وفى مقدمتها الفنون بأنواعها والموسيقى فى مقدمتها!.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47678
تاريخ النشر: 20 يونيو 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/600010.aspx