مدينة دمنهور عاصمة محافظة البحيرة مدينة يتميَّز أهلها بخاصيتين؛ الأولى التَّديُّن وعمارة المساجد وأداء الصَّلوات فيها بشكلٍ مُكثَّفٍ، والثَّانية أنهم يميلون إلى النِّظام الرَّأسمالى بالطَّبيعة، ولا يتحمَّسون عمومًا للفكر الاشتراكى؛ لأنها مدينة تُجَّار وتعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على الادِّخار، خصوصًا فى الملكية العقارية مع مَسحة من الحرص واليقظة فى التَّعامل المالى عمومًا، وقد اتَّخذ مجلس قيادة الثَّورة منها موقفًا بدت فيه روح الابتعاد وعدم الحماس، أو هكذا تهيَّأ لبعض أقطابها؛ لأنها كانت بؤرة للوفديين والإخوان المسلمين، وكان أول زائر لها من أعضاء مجلس قيادة الثورة هو السيد (كمال الدين حسين) وزير التَّربية والتَّعليم، وقد كنتُ طفلاً صغيرًا وأنا أرقب الاحتشاد لاستقبال عضو مجلس قيادة الثَّورة اللامع، والذى كان يشغل عدة وظائف فى وقت واحد، ويتحمَّل مسئوليات كبيرة وهو فى شَرْخ الشَّباب، وخرج طلاب المعهد الدينى فى انتظار مروره يتقدمهم شيخ المعهد، وكان يقرض الشعر فإذا به يرتجل أمام موكب السيد (كمال الدين حسين) قائلاً:
أَقْبِل كمال العُلا والعِلم والدِّين .. لترشف قهوة فى المعهد الدِّينى
صُنِعت فى مصنع الحُبِّ .. من أزكى الورود والرَّياحينِ!
فعرج موكب كمال الدين حسين ليدخل المعهد الدينى، خصوصًا أن خلفية عضو مجلس قيادة الثَّورة كانت دينيَّةً، وهو أمر كان موجودًا لدى عددٍ آخر من أعضاء مجلس قيادة الثَّورة وقتها، وبعدها طاف السيد (كمال الدين حسين) بأرجاء المدينة وسط حفاوةٍ واضحةٍ.
ولكن الزيارة الأهم كانت عندما قرر الرئيس عبد الناصر عام 1966 زيارة المدينة فى عيد العمال، وبدأ المحافظ النشيط وجيه أباظة الاستعدادات لاستقبال الزَّعيم، وفرض على كلِّ صاحب محل فى المدينة أن يدفع خمسين جنيهًا مساهمةً فى الاستعدادات لاستقبال الرَّئيس، وقد كان ذلك مبلغًا كبيرًا بمعدلات ذلك الوقت، ولقد تبرَّم الدمنهوريون من ذلك المَطْلب المفروض وكانت النَّتيجة أنه أثناء زيارة الرئيس عبدالناصر كانت الشَّوارع شبه خالية والإقبال محدودًا، ولم أعرف السَّبب -وأنا طالب فى القاهرة حينذاك- إذا كان عدم الرَّغبة فى دَفْع تكلفة أقواس النَّصر والإضاءة، أم الإجراءات الأمنيَّة الشَّديدة التى جعلت الكثيرين يؤثرون الابتعاد عن المُشاركة فى المُناسبة.
وتستدعى تلك الأحداث أمورًا مُشابهة تتعلق بزيارة الرؤساء وكيفية استقبالهم وتوديعهم، فلقد حكى لى صديقى السَّفير السابق أحمد والى أن الرَّئيس السادات كان فى زيارة لمدينة أسيوط، وكان الشيخ أبوالمعالى شخصيَّةً مرموقةً فى المدينة، فجَرَت دعوته ضمن مجموعةٍ من الشَّخصيات الكبيرة فى الإقليم ليستقبلهم الرَّئيس بعد الزيارة بعدة أيام فى مبنى القناطر الخيرية، ولقد كان الشيخ أبوالمعالى صديقًا قديمًا للسادات وربما رفيقًا له فى بعض أحداث ما قبل عام 1952؛ لذلك ما أن رآه الرَّئيس السادات حتى اتَّجه إليه مُرحِّبًا وقبَّله مُتذكرًا ما بينهما من وِدٍّ وذكريات، وفور انتهاء الزيارة تحرَّك الرَّئيس السادات وأراد الشيخ أبوالمعالى أن يلحق به، ولكن الحرس تدخَّل ليحجز ما بين موكب الرَّئيس والحاضرين، وقد حاول الشيخ أبوالمعالى أن يشرح لهم أنه يعرف الرَّئيس ويريد أن يراه، ولكن دون جدوى، والشيخ يُردِّد بصوتٍ مرتفعٍ: «والله إن الرئيس قد قبَّلنى.. إنه قد قبَّلنى»! ولكن ذلك العالم الأزهرى الفاضل لم يكن يعرف أن مواكب الحُكَّام لا تتسع للعواطف، وأن التَّعامل مع الرؤساء مرهونٌ بلحظات معينة لا قبلها ولا بعدها، وقد مضى الرَّجل فى النهاية مُندهشًا ممَّا حدث.
إننى أكتب هذه السُّطور وقد عايشتُ رِكاب رئيس الجمهوريَّة فى تحركاته لعدة سنوات، وأدركتُ أن للحظة الواحدة حسابها فى ظِلِّ التَّحركات المُحددة والإجراءات الأمنيَّة التى تحيط برئيس الدولة، ولقد تغيَّرت الدُّنيا فى العالم كله، وبدأ الإرهاب يستهدف الزُّعماء والقيادات فضاعف ذلك من دِقَّة الإجراءات الأمنيَّة، وزاد من صرامتها، وأصبح لكلِّ دقيقةٍ ثمنٌ، ولم يَعُدْ فى مقدور الشَّيخ الفاضل أبوالمعالى أن يلحق برِكاب الرَّئيس أو يتمكن من توديعه.. إننى أتذكر كلَّ ذلك وعينى على المدينة التى نشأتُ فيها وتعلَّمتُ بمدارسها قبل أن ألتحق بجامعة القاهرة، وكيف أن لهذه المدينة تركيبةً خاصَّةً تتميَّز بها وتمضى عليها، فالمُتأمل للمُدن المصريَّة سيكتشف أن لكلِّ منها شخصيَّةً مُتفردةً، فالإسكندرية تختلف عن القاهرة، وبورسعيد تختلف عن أسيوط، ودمنهور ليست هى طنطا أو المنصورة على الرغم من قرب المسافة بينها، ولكن هذه المُدن جميعًا تتمتع بدرجةٍ من التَّجانس المصرى الذى يجعلها وحدةً واحدةً لا تتجزَّأ من المُكوِّن المصرى التَّاريخى بحضاراته وثقافاته ودياناته.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 263
تاريخ النشر: 1 فبراير 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d9%86%d8%a7%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d9%83%d9%85%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%86-%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86-%d9%81%d9%89-%d8%af%d9%85%d9%86%d9%87%d9%88%d8%b1/