لقد حان الوقت لنجلس مع أشقائنا السودانيين جلسة موضوعية نستبعد منها الرواسب التاريخية والعوامل الذاتية التى حكمت طبيعة العلاقات بين البلدين الشقيقين على امتداد القرنين الماضيين، ودعنا نعترف بداية بخصوصية العلاقة بين البلدين ولا أريد أن أستطرد استطرادًا عاطفيًا يردد شعارات سئمنا منها - فى الجنوب والشمال معًا - مثل (البلدين التوأم) و(شطرى وادى النيل) و(العمق الاستراتيجى المتبادل) إلى غير ذلك من عبارات ظللنا نرددها لعشرات السنين وقد جاء الوقت لكى نحيلها إلى حقائق بطرق متفق عليها ولقد قالوا قديمًا إن الحياة ليست فقط حقيقة ولكنها أيضًا طريقة، ولعلى أجازف فأقول إن العلاقات بين البلدين طيبة ظاهريًا فقط لأن أشقاءنا فى الجنوب أو على الأقل شريحة منهم يتصرفون مع مصر فى ظل ثقة مفقودة ومحبة هشة وترسبت لديهم رواسب تاريخية ليست مصر هى المسئول الوحيد عنها فالشريك البريطانى يتحمل الجزء الأكبر مما جرى تاركًا رواسب سلبية لدى الشمال والجنوب على حد السواء، ولعلنا نلاحظ أخيرا - ودعنى أقولها صريحة - إنه منذ قيام ثورة الإنقاذ عام 1989 وعلاقات القاهرة والخرطوم تمر بمطبات لم تعرف لها نظيرًا من قبل، ودعنى أرصد المحاور التالية:
أولًا: عندما قامت ثورة الإنقاذ تحمس لها الرئيس الأسبق مبارك حماسًا شديدًا وتفرغ لدعمها عدة أيام مستجيبًا لكل طلبات النظام الجديد فى الخرطوم حتى يقف على قدميه، ولأنى كنت سكرتير الرئيس الأسبق للمعلومات فقد نقلت له ما أبلغنى به الراحل د.بطرس بطرس غالى وقلت له:(ياسيدى الرئيس إن الوزير المصرى يقول إن الثوار الجدد مزيج من انتماءات إلى الجبهة الإسلامية مع قليل من حزب البعث)، وقد رفض الرئيس هذا التحليل وقال لي: أنت وأستاذك لا تفهمان السودان كما نفهمه، ولم تمض عدة شهور قليلة إلا وكشف النظام الجديد عن توجهاته الحقيقية حيث أصبح الدكتور حسن الترابى - رحمه الله - هو المنظّر، واللواء عمر البشير هو قائد الدولة وأصبح واضحًا لكل ذى عينين أن النظام ليس حليفًا للرئيس مبارك وحكومته فى الشمال، وظلت الأمور مستترة حتى القمة العربية التى تلت غزو العراق للكويت وقد انعقدت بالقاهرة فى العاشر من أغسطس 1990 واتخذت فيها السودان موقفًا معارضًا لسياسات مصر وحلفائها، ثم تزايدت هوة الخلاف بين العاصمتين القاهرة والخرطوم وتاهت شعارات وادى النيل وأصبحنا أمام طرح مختلف إذ إن الأحزاب التقليدية للإمامين المهدى والميرغنى - أى الأنصار والختمية - لم يعد تأثيرهما فى الشارع السودانى كما كان من قبل، وجرت مياه كثيرة فى النهر فاختلف الترابى مع البشير وتفاءلت مصر مرحليًا ولكن الأمور تدهورت بعد محاولة الاغتيال الفاشلة التى تعرض لها الرئيس الأسبق مبارك فى العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا) حيث أشارت أصابع الاتهام وبعض القرائن إلى تورط النظام السودانى فى تلك المحاولة!
ثانيًا: بدأ الرئيس البشير يتخذ مواقف من شأنها إثارة الشعور القومى السودانى ضد أشقائه بالشمال لأنه يدرك أن عملية الحقن التى يقوم بها تغذى نزعات قديمة وتثير رواسب باقية فى العلاقات بين البلدين يمكن أن تجمع الرأى العام السودانى وراءه بإثارة خلافات مع (القاهرة) على نحو يحجب عن الشعب السودانى فرصة انتقاد نظامه خصوصًا أن ذلك الشعب المثقف مسيس بطبيعته حر بفطرته، ولقد وقفت مصر فى صلابة إلى جانب الرئيس البشير عندما كان مطلوبًا من المحكمة الجنائية الدولية واستهجن المصريون مثل معظم العرب والأفارقة أن يستدعى رئيس عربى إفريقى للمحكمة، بينما الذين يسحقون الفلسطينيين كل يوم تفتح لهم الأبواب ولا توجه لهم أى إدانة ومع ذلك استخدم الرئيس البشير مشكلة مثلث حلايب للإثارة ووظفها فى تأجيج المشاعر السلبية بين البلدين، ولست هنا أيضًا فى معرض الحديث عن تلك المشكلة ولكننى فقط أقول إن تصديق البرلمان المصرى على تقسيم الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية وتسليم جزيرتى تيران وصنافير لها هو ذريعة قانونية قوية للتسليم بالحق المصرى فى حلايب وشلاتين، إذ إن موقف القاهرة فى هذه الحالة شبيه إلى حد كبير بموقف (الرياض) حيث تترك دولة وديعة لدى غيرها ثم تسعى لاستعادتها، والمعروف أن خط عرض 22 هو الحدود التاريخية لمصر أما تلك التعرجات فيه فقد تمت بإرادة مصرية كحدود إدارية مؤقتة لتسهيل حركة القبائل ومنها العبابدة والبشارية فضلًا عن مقاومة الجراد ومكافحة الملاريا على نحو كان يقتضى تمييع خط الحدود بين الدولتين لسهولة الحركة وسرعة المواجهة.
ثالثًا: كان تقسيم السودان إلى دولتين صدمة كبيرة للمصريين والسودانيين معًا وأتذكر الآن لقاءاتى مع الراحل جون جارنج الذى كان وحدويًا ديمقراطيًا ثم قضى نحبه فى حادث غامض لطائرة تعيسة، وأصبحنا نرى أن أكبر الدول الإفريقية مساحة وهى السودان الكبير قد انقسمت وفتح الخرطوم أبوابه لمن يعادى القاهرة وأصبح منبرًا يعتليه من يريد الإساءة لمصر، ثم كانت ثالثة الأسافى أن الموقف السودانى اقترب من الموقف الإثيوبى فى أزمة سد النهضة على غير ما توقع المصريون فقد كان السودان لنا ملاذًا كما كنا لهم، كذلك انتقلت الكلية الحربية المصرية من جبل الأولياء بعد نكسة عام 1967 وخرج الشعب السودانى العظيم ليعيد لعبد الناصر الثقة بعد الهزيمة عندما استضافت السودان قمة أغسطس عام 1967. إن العلاقات المتأرجحة بين البلدين تحتاج من النظامين فى الخرطوم والقاهرة إلى جلسات تصفية حاسمة وتفاهم موضوعى كامل لأن البلدين التوأم لا يتحملان هذا النمط من العلاقات المضطربة والثقة المفقودة.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 47699
تاريخ النشر: 11 يوليو 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/603344.aspx