إذ تأملنا المؤسسات السيادية أو العامة أو الاقتصادية أو حتى الوحدات الإدارية الكبيرة فسوف نكتشف أحيانًا طغيان دور الفرد على قمتها مكتسحًا فى طريقه كل ما عداه مبتلعًا المؤسسة وكأنه يردد عبارة ملك فرنسا لويس الرابع عشر (أنا الدولة، والدولة أنا) فبعض كبار المسئولين يتوهمون أنهم قادرون على التعبير الكامل وحدهم عن المؤسسات التى يقودونها وتكون النتيجة ذوبان المؤسسة بالكامل فى شخص رئيسها الذى لا يتورع عن اختزالها بالكامل فى ذاته فتصعد معه أحيانًا وتهبط به غالبًا، وتلك ظاهرة خطيرة لا تظهر إلا على مستوى الدول المتخلفة سياسيًا المرتبكة إداريًا التى تسعى إلى شخصنة المناصب بل وتفصيلها أحيانًا على مقياس من يريدونهم، والأمر فى ظنى يثير إشكاليات متعددة لعل أبرزها:
أولًا: إن اختزال المؤسسات فى شخوص من يتولون أمرها هو أمر معيب يؤدى إلى ضياع شخصية المؤسسة واستبداد الفرد بالقرار وإمساكه بكل الخيوط على نحو يعوق عملية التصعيد المطلوبة لعناصر شابة يجب أن تتقدم الصفوف، ولقد شهدت فى حياتى الوظيفية نماذج لطغيان الفرد سواء أكان وزيرًا أو مديرًا أو مسئولًا كبيرًا حتى إننا أحيانًا ننسب المؤسسة إلى ذلك الفرد الذى يتولى رئاستها ويسيطر على قيادتها ولا شك أن ذلك عوار فى علم الإدارة، وبهذه المناسبة فأنا سعيد هذا العام أن الذى حصل على (جائزة النيل العليا) من المجلس الأعلى للثقافة هو الدكتور (صبرى الشبراوي) أستاذ الإدارة الكبير وخبير الموارد البشرية على المستوى الدولى ولعل فيما يقول وما يكتب مواجهة حاسمة لهذه الظاهرة التى نتحدث عنها ونشير إليها وهى ظاهرة (غياب التوازن بين الفرد والمؤسسة) على نحو يصيب بعضها بالشلل وقد يصعد بها كثيرًا ولكنه يهبط بها دائمًا!
ثانيًا: إن كلمة المؤسسة تعنى بالضرورة أن هناك نظامًا (System) يجرى اتباعه وقواعد مرعية ولوائح رسمية لا ينبغى الخروج عليها، لذلك فإن استحواذ قمة المؤسسة على كيانها الكلى هو تأكيد لمعنى واحد وهو غياب النظام فغياب القاعدة واختفاء النظم والتقاليد الوظيفية والأعراف التى تحكم العلاقة بين الفرد والمؤسسة كل ذلك يؤكد نوعًا من الارتجالية فى العمل والعشوائية فى التفكير ويحرم المؤسسات والوزارات من حق التطوير والارتقاء بل ويجعلها أداة طيعة فى يد فرد أو حفنة من القيادات فى ظروف معينة بينما الأصل هو أن تكون هناك قواعد حاكمة ونظم مرعية وألا يترك الأمر لفرد هو الذى يقرر ما يشاء فى الوقت الذى يريد، وذلك مهما بلغت كفاءته وتميزت خبرته فالمؤسسة هى الأصل كما أنها هى الأبقى فى كل الأحوال.
ثالثًا: إن أبدية الوظائف مستحيلة ولا يوجد مسئول يضمن لنفسه البقاء كيفما يريد، فالحياة تقوم على تداول السلطة ودوران النخبة ولا تسمح أبدًا بالجمود الإدارى الذى يضع على قمة أية مؤسسة صنمًا يركع أمامه الجميع، لأن ذلك يؤدى غالبًا إلى بحثه عن شهرته وإيمانه المطلق بذاته وشعوره أنه حالة خاصة بين البشر، وما أكثر ما رأينا ممن يمشون على الأرض فى خيلاء وكأنهم يخرقونها ويبلغون الجبال طولًا! فلو أن هناك نظامًا معمولًا به لأوقف جموحهم وجعلهم يدركون أنهم جزء من المؤسسة وأن طغيان شخصياتهم ومحاولاتهم صبغ المؤسسة باللون الذى يريدون هو أمر غير ممكن، ولعلى أجازف هنا واقول إن جزءًا من صراع الأجيال ينطوى على المخاطر الناجمة من هذه النقطة بالذات والتى تتمثل فى محاولات السيطرة من الأجيال القديمة على الأجيال الجديدة وفرض وصاية عليها وتأكيد نوع من الأبوية الزائفة التى تقهر ملكات الشباب وقدراته الإبداعية وميزاته الوظيفية، ولو تأمل كل منا فى مؤسسة حوله لوجد نموذجًا لذلك وربما كان هذا الأمر هو واحد من الأسباب التى أدت إلى حالة الإحباط لدى الشباب وانصرافه للانخراط فى تنظيمات غير شرعية أو الاستسلام للإدمان أو إحدى الهجرتين الزمانية أو المكانية.
رابعًا: إننا لا نصادر على المدير قوى الشخصية ولا رئيس المؤسسة الذى يتميز بالحنكة والحصافة والحكمة والذكاء ولكننا نهمس فى أذنه: لن تكون الوحيد فقد سبقك غيرك وسوف يأتى بعدك آخرون فلا تكن مشتطًا فيما تفعل ولا متوحدًا فى قراراتك ولا تتصور أنك حالة خاصة ويمكنك أن تترك بصمتك شرط أن تفسح المجال لغيرك أيضًا واعلم أن قيمة المدير الناجح هى فيمن يترك بعده من كفاءات يمكن أن تملأ مكانه وأن تقود المؤسسة بعده، أما أن تتوهم أنك أو الطوفان من بعدك فذلك سقوط مروع فى علوم السياسة والإدارة والاقتصاد والاجتماع!
خامسًا: إننى ألفت النظر إلى أهمية الإدارة الجماعية أحيانًا واللجوء إلى أصحاب الرأى ممن يعرفون (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فمدير المؤسسة أو الوزير ليس هو بالضرورة أعلم الجميع، ولكنه قد يكون من أكثرهم كفاءة وخبرة كما قد يكون أيضًا من أفضلهم حظًا.
إننى أقول هذه الكلمات وعينى على كثير من الوزارات والمؤسسات التى أدعو المعنيين بشئونها مراعاة ما نتحدث عنه لأن الأمر يرتبط بعملية التنمية ومسيرة الديمقراطية الوظيفية والقدرة على انتشال الوطن من مصاعبه ومتاعبه ومشكلاته .. إن التوازن بين الفرد والمؤسسة هو الطريق إلى وطن أكثر استقرارًا وحياة أفضل لكبار المسئولين وصغارهم على حد سواء!
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 47706
تاريخ النشر: 18 يوليو 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/604404.aspx