تؤرقنى كثيرًا أفكار متضاربة وهواجس ملحة حول درجة مصداقية التاريخ البشرى كله! خصوصًا أن ما وصلنا منه يرتبط بالجزء المكتوب وهو لا يتعدى بضعة آلاف من السنين من بين ملايين السنوات هى عمر البشرية الذى نكتشف كل فترة أنه أطول بكثير مما تصورنا، وأدرك أيضًا أن التاريخ الإنسانى كتبه معاصروه فى ظل انتماءاتهم الفكرية بل وأهوائهم الشخصية، ولقد عذرت د.يوسف زيدان ولم أتحمس كثيرًا للحملة ضده لأنى آمنت بأن التسليم المطلق بكل ما هو شائع فى تاريخنا يحتاج إلى مراجعة، وأن اعتبار كل ما وصل إلينا وانتشر بيننا هو مسلمات لا تقبل الجدل ولا تحتمل التشكيك هو أمر يجافى الحقيقة ولا يتماشى مع سياق التاريخ المعرفى للإنسان وتطوره عبر العصور، ولقد أدركت دائمًا أن هناك رموزًا لها تماثيل شامخة على قواعد رخامية فى ميادين كبرى وهم لا يستحقون ذلك بينما هناك مظاليم فى حوارى التاريخ وأزقته وهم أكثر تأثيرًا وأشد تضحية فى سبيل الإنسان ومسيرته الطويلة، لذلك ترسبت لدى قناعات أطرحها على القارئ من خلال الملاحظات التالية:
أولًا: الأسطورة ليست هى الأكذوبة الكاملة ولا القصة الحقيقية إنها أمر بينهما تدخل فيه الخيال الإنسانى بشطحاته الكبيرة وانفعالاته المرحلية فجعل منها جزءًا مستقرًا فى الوجدان البشرى والخيال الإنسانى وهى مسئولة مسئولية كاملة عن تاريخ التجمعات البشرية ومسيرتهم باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من مكونات العقل الإنسانى التى ترسبت فى أعماقه وترتبت عليها أمور لا ينتهى تأثيرها، فأساطير الأولين ذكرها القرآن الكريم حتى إن القصص الدينى يكاد يكون مشتركًا بين الديانات الإبراهيمية الثلاث مع اختلاف فى السردية وترتيب الأولويات، ولقد سيطرت أساطير المنطقة التى نعيش فيها على العقل البشرى فأعطته قدرًا كبيرًا من الخيال الخرافى على حساب الحقائق العلمية.
ثانيًا: عندما تحدثنى عن الحضارة الفرعونية فإننى أنحنى إجلالًا وتقديرًا ولا تهتز صدقية التاريخ أمامى لأن هناك شواهد شاخصة، أستطيع أن أرى الهرم وأن أزور معبد أبو سنبل وأقوم بتصوير أبو الهول وأتجول بين حضارة معجزة لا يعوزها الدليل المادى ولا ينقصها البرهان الملموس، وأنا بصراحة لا أتيقن من كيانٍ حضارى ولا أعطى ثقتى الكاملة فى روايات مراحل تاريخية معينة إلا بما تملكه من آثار باقية وتراث إنسانى يصعب التشكيك فيه فكعبة إبراهيم لا تزال قائمة بقداستها وتراكم مراحل طقوس العبادة حولها، كما أن القرآن الكريم هو معجزة مادية باقية بغير تبديل أو تغيير على نحو يعطيه صدقية كاملة فضلًا عن الجانب الروحى للإيمان الذى لا نجادل فيه ولا نشكك، ولا شك أن الرواية الدينية عمومًا قد تختلف أحيانًا مع الرواية التاريخية وأنا شخصيًا أعتقد بشكل جازم أن (إخناتون) قد سبق الديانات السماوية الثلاث فى اكتشاف معنى التوحيد لله الواحد الأحد الفرد الصمد بل إن إيمانى برسالات السماء أنها هى الزاد كلما برزت أمامى شواهد مكملة أو براهين معجزة.
ثالثًا: إن الأمر يتجاوز ذلك عندى لأبحر فى أعماق التاريخ السحيق لملايين السنين وأتساءل كيف عاش الإنسان الأول؟ وكيف اكتشف حقائق الحياة حقيقة حقيقة لأول مرة؟ ويشتط بى الأمر لأربط بين تاريخ الإنسان وتاريخ كائنات أخرى فى مقدمتها الحيوان منذ تكوين الخلية الأولى التى صنعت الحياة بل وأجدنى أحيانًا متعاطفًا من الناحية النظرية البحتة مع (داروين) وما قال به عن النشوء والارتقاء فى سلم تكوين الحياة من مراحلها الدنيا والتطور الضخم الذى لحق بها وجعلها على النحو الذى نراه.
رابعًا: إننى أميل إلى النظريات العلمية التى تسلم بالجانب الروحى للإيمان الدينى ثم تتجه إلى الدلائل العقلية بعيدًا عن الثوابت النقلية حتى يصبح الإيمان واعيًا يقوم على يقين لا يهتز، بل إن الردود على (الملاحدة) يبدو يسيرًا باستخدام العقل أكثر منه ترديدًا لمقولات مقدسة لا يتحمسون لسماعها نتيجة افتقاد الإيمان بها، وأنا أجازف هنا لكى أقول أن جزءًا من صدقية الديانات - حتى خارج إطارها الروحى - ينبع من صدقية الحدث التاريخى وشواهده التى نكتشفها يومًا بعد يوم حتى إن هناك من يحدد بدقة مكان سفينة نوح ويرى موقع موسى الكليم فى طور سيناء مخاطبًا ربه كما يشير المسلمون إلى بئر زمزم باعتبارها ذلك النبع الذى تفجر تحت قدمى هاجر المصرية وهى تهرول لإنقاذ وليدها (أب العرب).
خامسًا: إننى أطالب بإعادة قراءة التاريخ وعلى الأقل الحديث منه لأن فيه تجاوزات كثيرة، فالنحاس باشا فى رأيى أكثر صلابة من سعد زغلول، وأحمد عرابى أكثر تضحية من مصطفى كامل، والخديو إسماعيل مفترى عليه والملك فؤاد له إيجابياته والملك فاروق كان وطنيًا ولكنه كان فاسدًا فى الوقت نفسه ولندرك أن التاريخ له دهاؤه الذى يجعله كامنًا ينصف فى الوقت المناسب حتى لو انحاز المؤرخون فى مراحل معينة، وهل ننسى أن جزءًا من مصداقية عبد الرحمن الرافعى المؤرخ الكبير يضيع بسبب هواه السياسى وحماسه لأفكار الحزب الوطنى على حساب رأيه فى حزب الوفد ومواقفه؟ بل إن جزءًا من قيمة الجبرتى يأتى من حالة الدهشة التى تلازمه فى كثير مما كتب وتعطى انطباعًا بعفويته وبساطته وأمانة نظرته. أيها السادة إن قراءة التاريخ من جديد قد تطرح أمامنا آراءً صادمة ومواقف حدية ولكن علينا أن نعيد الصياغات من أجل تنقية ذاكرة الأمة وتصويب كثير من الرؤى حول زعامات عبرت وشخصيات مرت فى موكب التاريخ ولم تنل حظها الحقيقى بالزيادة أو بالنقصان.. إنها دعوة مخلصة للمتخصصين فى الدراسات التاريخية بل والعلوم الاجتماعية عمومًا حتى نقرأ جميعًا بعض صفحات التاريخ الذى مضى قراءة جديدة فى تجرد وموضوعية ودون عاطفة أو انحياز!.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 47713
تاريخ النشر: 25 يوليو 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/605426.aspx