كانت تستهوينى كثيرًا الألقاب المتداولة قبل ثورة يوليو 1952، فهذا (صاحب المقام الرفيع)، وذاك هو (الرئيس الجليل)، وثالث هو (المجاهد الكبير) بالإضافة إلى عبارات أخرى مثل (دولة الرئيس) و(رفعت الباشا) و(صاحب العزة) وصولًا إلى (صاحبة العصمة) وغير ذلك من الألقاب التى جرى تداولها فى مصر على امتداد قرن ونصف قرن أو يزيد، ثم جاء قرار ثورة يوليو بإلغاء الألقاب واستبدال كلمة السيد بكل هذه العبارات ولم تكن تلك الكلمة وحدها كافية لتشفى غليل من لديهم تصورات تاريخية أو أوهام شخصية، فإذا كانت هذه الألقاب هى ميراث تركى فإنها مثل غطاء الرأس (الطربوش) الذى كان هو الآخر علامة لـ(الأفندي) و(البيك) و(الباشا)، ولقد كنت أتخيل نفسى وأنا طفل كلما رأيت المغازى باشا أو سمعت عنه أتوهم أننى يمكن أن أتوسم خطاه وأن أحمل لقبًا ذات يوم ففى السلكين العسكرى والقضائى كان الوصول إلى درجة معينة يعطى درجة البكاوية ثم الباشاوية، ولا نزال نذكر أن القائم مقام كان بك (درجة ثانية) والأميرالاى بك (درجة أولي) واللواء باشا بقوة القانون العسكرى والأمر نفسه فى القضاء بدرجاته المختلفة كما حمل بعض السفراء درجة البكاوية والباشاوية أيضًا، ولعلنا نتذكر أسماء مثل محمد صلاح الدين باشا وحافظ عفيفى باشا وعبد الفتاح عمرو باشا وغيرهم من رموز السلك الدبلوماسى قبل ثورة يوليو 1952، ولقد كنت أسأل أبى كثيرًا لماذا يختص النحاس باشا ومن قبله سعد زغلول باشا بلقب (الرئيس الجليل) ويستأثر مكرم عبيد بصفة (المجاهد الكبير)؟! ثم شعرت بفخامة عبارة صاحب المقام الرفيع، والمؤسف أن الثورة عندما ألغت الألقاب ومعها غطاء الرأس (الطربوش) لم نجد لها بديلًا حتى استعاد المصريون بشكل تلقائى لقبى بك وباشا فى كل المناسبات تقريبًا وكأنما كان الإلغاء ورقيًا فقط ولم يكن فعليًا أبدًا، كما أن المصريين ظلوا بغير غطاء رأس يحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء ويخفى الرأس الصلعاء ويعطى لصاحبه رونقًا ودلالًا فطربوش عبد الرحمن باشا عزام مندفع إلى الوراء وطربوش حافظ عفيفى باشا يميل إلى الجانب الأيمن وقس على ذلك تعدد الأمزجة والأهواء فلقد كانت تلك هى (إكسسوارات) ذلك العصر إلى جانب عمامة الشيخ البيضاء حول طربوشه الأحمر وقلنسوة القسيس السوداء تمييزًا له بين الرهبان، لقد كان عصرًا غنيًا بالمعانى ثريًا بالألقاب ولا أزال أذكر أن النحاس باشا قد فاجأ الملك فاروق بعد انتخابات 1950 واكتساح الوفد لها بأن طلب منه أن يمنح الوزيرين الباقيين دون باشاوية ذلك اللقب وهما عبد الحميد عبد الحق بك وطه حسين بك فقال له فاروق: ليس هذا وقته يا رفعت الباشا، فتجاهل النحاس ما سمع ونادى على الوزيرين قائلًا: يا عبد الحميد باشا ويا طه باشا أرجو أن تتقدما من جلالة الملك لشكره على منحكما الباشاوية وأسقط فى يد فاروق وابتلعها صامتًا، هكذا كانت مصر فى حوار حيوى دائم وآراء صحية متباينة، وتجمعنى حاليًا مناسبات كثيرة بأستاذ جراحة القلب العالمى مجدى يعقوب وأسعد كثيرًا بأنه يحمل لقب (سير) من ملكة بريطانيا ونناديه جميعًا بذلك اللقب اعتزازًا به وتقديرًا لمكانته، والمعروف أن الملكة تمنح كل عام لبعض من يقدمون خدمات جليلة للمملكة المتحدة أو للإنسانية عمومًا ألقابًا راقية، ولا أزال أتذكر أن سفير بريطانيا الأسبق فى القاهرة ديريك بلامبى كان يحمل لقب (سير) من الملكة - وهو بالمناسبة متزوج من مصرية هى ابنة الروائى الراحل يوسف جوهر - أما أعضاء مجلس اللوردات فى بريطانيا فهم يحملون لقب اللورد احترامًا وتوقيرًا، ولقد طلبت فى فترة من حياتى تسمية رئيس مصر بلقب (عزيز مصر) قياسًا على (شاه إيران) إذ إن التميز المنفرد يعطى الدول مكانة وتألقًا ولكن بعض الخبثاء قال إن لقب عزيز مصر سوف يجر على زوجته الويلات لأنها ستكون امرأة العزيز ودورها فى قصة يوسف نبى الله والأمين على خزائن الأرض الذى نبذه إخوته وجاءوا على قميصه بدم كذب لأبيهم الذى كان يحمل له حبًا يميزه عنهم، إن تاريخ مصر حافل أيها السادة وعلينا أن نحيى بعض ومضاته المضيئة فأنا أدرك جيدًا أن كل الأحقاب لها نمط خاص من الألقاب، ولا نزال حتى الآن ننادى المهندس بعبارة باشمهندس فلم نستطع بعد الفكاك من تاريخنا الاجتماعى ومأثوراته الباقية، ولا أزال أتذكر خطابات التكليف الملكية لرؤساء الحكومات المتعاقبة وما فيها من لياقة وحسن اختيار حتى أن الملك المعظم كان ينادى بضمير الجمع (نحن فاروق الأول)، إننى لا أتباكى على عصر مضى كانت له سوءاته وأيضًا حسناته ولكننى أطالب بأن تكون لنا هوية متميزة بين الأمم برداء معروف وغطاء رأس متميز إلى جانب بعض التوابل البسيطة من الألقاب العصرية التى تذكى روح التنافس وترفع درجة الأداء ولن تكون تعبيرًا طبقيًا لأنها لن ترتبط بعنصر الثروة - كما كان الأمر فى الغالب قبل عام 1952 - بل ترتبط بالتفوق العلمى والخدمة الوطنية ورعاية الطبقات الفقيرة فلقد تغيرت الدنيا وتحولت مظاهر التميز على نحو يختلف عن الماضى ولا يبدو امتدادًا له، وتحضرنى هنا طرفة لا أنساها عندما استقبل الرئيس الأسبق مبارك ذات يوم السيد فؤاد سراج الدين وكان بينهما احترام متبادل وكان يرافق زعيم الوفد دائمًا حفيده أ. فؤاد بدراوى وأظن أن الرئيس ظل يخاطب ــــ بشكل غير متعمد ذ ضيفه قائلًا: يا فؤاد بك وعند توديعه له ابتسم السيد فؤاد سراج الدين بطريقته الساخرة والماكرة وقال له: أظن أنها كانت فؤاد باشا يا فخامة الرئيس، وضحك الجميع!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47720
تاريخ النشر: 1 اغسطس 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/606516.aspx