إن المتأمل لشكل المجتمع الدولى على المستويين العالمى والإقليمى سوف يدرك أن شبكة العلاقات بين الدول تأخذ مسارًا مختلفًا عن ذلك الذى عهدناه لقرون عديدة فلم تعد العلاقات حدية بمعنى الصداقة الكاملة أو العداء السافر ولا التحالفات كاملة بمعنى تطابق مواقف الدول المتحالفة تجاه القضايا الواحدة كما لم تعد الدول ملزمة بسرعات واحدة للوصول إلى الغاية المشتركة، لقد أصبحنا أمام منظور جديد ومفهوم مختلف يضع الأمور فى إطار يوحى بحق أن الدنيا تتغير وأن الفضاء الدولى يدخل فى أجواء مختلفة تستحق منا عناية الدراسة واهتمام الفحص للخروج بالحقائق التى لم تسيطر على عقولنا من قبل، ولكى لا يكون هذا القول مبهمًا فى جملته غامضًا فى معظمه فإننا نتداول مع القارئ الأفكار التالية:
أولًا: لقد أدركت الدول ذات الفهم الصحيح لمسيرة عالم اليوم أنه لا يوجد إلزام عليها إذا اتجهت لتكوين كيانات موحدة أن تمضى كلها بسرعة واحدة بل أصبح هناك تسليم بمنطق السرعات المتفاوتة وقبول كل طرف لخيارات الطرف الآخر، ولو اتخذنا الاتحاد الأوروبى كحالة واضحة لتجنب الالتزام بتوقيتات محددة فسوف نجد أن الآباء المؤسسين لذلك الاتحاد قد تركوا الباب مفتوحًا دون إلزام بقبول خطوات معينة قد لا تكون بعض الدول مستعدة لها فلم تقبل كل دول الاتحاد مسألة العملة الموحدة وبقيت منطقة الاسترلينى على ما هى عليه حتى وصلت بريطانيا إلى مرحلة الخروج من الاتحاد برمته كذلك لم يفرض الاتحاد أمر التأشيرة الموحدة على كل الدول الأعضاء بل ترك الخيار فى ذلك ولم تكن كل دول الاتحاد خاضعة لتأشيرة (شيجن) حتى وقت قريب، ولو أننا أدركنا ذلك فى الوطن العربى وتعاملنا مع الأمور بعقلانية وواقعية وتركنا باب الوحدة اختياريًا ينبع من إرادة كل دولة ولا يأتى قسرًا من السلطات العليا للدول قبل أن تنضج الفكرة وتلتقى حولها الآراء ورغم أن العرب لديهم واحدة من المنظمات الدولية وهى جامعة الدول العربية التى نشأت سابقة على الأمم المتحدة ذاتها ولكن العرب تعثروا فى الطريق منذ إنشائها بسبب الإصرار الدائم على قاعدة الإجماع وفرض قبول بعض الدول لقرارات لم تكن راغبة فيها ولكنها قبلتها من أجل التغريد داخل السرب حتى لو كان ذلك بغير إرادتها.
ثانيًا: لقد ظهر المشهد العبثى فى منطقتنا على نحو لم يكن متوقعًا فالتحالفات متضاربة والأجندات متصارعة، ولو أخذنا السياسة الخارجية لدولتين هما إيران وتركيا فسوف نكتشف أن الأمور مضت فى مسار معقد تجاه الأحداث العربية المتعاقبة فى دول المشرق العربى والمغرب العربى على السواء وكيف أن دخول الاتحاد الروسى إلى الساحة قد غير الواقع على أرض المعارك فى سوريا وفتح بابًا للتحالفات الفرعية التى لم تكن مطروحة من قبل، وقد تتعارض سياسة دولة معينة مع دولة أخرى فى بعض القضايا وتتفق معها فى البعض الآخر ويبقى التحالف قائمًا فقط بالاعتماد بينهما على الأمور المتفق عليها دون غيرها، فالموقف المصرى والموقف السعودى يشتركان فى كثير من القضايا ولكن ليس بنفس الدرجة فى كل منها إذ أن لكل قطر مصالحه ولكل بلد مشكلاته ولكل دولة أجندة خارجية مختلفة، لذلك أصبح من المتعين علينا أن نقبل بأسلوب التحالفات الناقصة ولا نتصور أبدًا أن تطابق الآراء يمكن أن يكون كاملًا فقد تلتقى المصالح تجاه قضية بعينها وتصطدم حول قضية أخرى بذاتها، فعصر أحلاف الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى قد ولى عندما كانت الأمور تؤخذ من الأبيض إلى الأسود دون أن يكون بينهما ظلال من الاختلاف ولو فى التفاصيل.
ثالثًا: إن تشابك العلاقات الدولية المعاصرة قد فرض على كل الأطراف تنازلات وقتية لا تؤثر على التحالفات الدائمة بحيث أصبحنا لا نتطلع إلى سياسات خارجية واحدة ولكن دعنا نقول سياسات خارجية مشتركة وأن الاعتراف بهذا النمط من التفكير يمكن أن يؤدى إلى درجة عالية من المرونة الدبلوماسية والواقعية السياسية كما أنه يضع الدول أمام مصالحها الحقيقية ولا يجعلها تمضى فى طريق لا تريده ثم تتوقف فى منتصفه، ولنا هنا أيضًا عبرة فى قرار الشعب البريطانى الخروج من الاتحاد الاوروبى وكيف تقبلت الأطراف الأخرى ذلك القرار الصادم بواقعية رغم أن له آثارًا كبيرة على الاتحاد وعلى القارة بأكملها.
رابعًا: إن التعددية السياسية قد طرحت أمامنا مفهومًا جديدًا للمهم والأهم بحيث يكون فى مقدور الدول التمسك بالخطوط العريضة والتساهل فى بعض التفاصيل وهى تلك التى يكمن فيها (الشيطان) كما يقولون، والأمر يخضع فى نهايته لحسابات ذاتية فى مواقع صنع سياسات الدولة بحيث يمكن لها أن تضحى ببعض المصالح الصغيرة وتخرج على بعض المواقف المرحلية من أجل أهداف بعيدة وغايات تعتبرها أكثر أهمية.
خامسًا: إن الذى يرصد تحرك الدبلوماسية المصرية يلاحظ أنها قد اكتسبت من المرونة ما لم يكن متاحًا لها من قبل لأن الظروف الدولية والإقليمية قد فرضت عليها قدرًا كبيرًا من تأييد المصلحة الوطنية دون المساس بالثوابت الدولية أو القطرية، فالعلاقات بين القاهرة وواشنطن وبينها وبين موسكو تتمتع بمساحة من الحركة ونمط فى الاختلاف لم يكن موجودًا من قبل كما أن استقلالية القرار المصرى رغم الظروف الصعبة ـــ قد أدى إلى الشعور بالندية تجاه القوى الكبرى برغم الأطماع والأحقاد ومحاولات سد طريق المستقبل أمام المصريين.
هذه هواجس وخواطر تشير إلى تحولات كبرى فى فلسفة العلاقات الدولية المعاصرة بتجزئة التحالفات وتفاوت السرعات .. إنه عالم مختلف!
د. مصطفى الفقى;
جريدة الأهرام العدد 47727
تاريخ النشر: 8 أغسطس 2017
رابط المقال: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/607619.aspx